لا يخلو فيلم "أبيض وأسود" تدور أحداثه فى حارة أو زقاق بأحد الأحياء الشعبية المصرية من شخصية "ابن البلد" الذى يخوض عراكًا مع من يتعرض لـ"بنت حتته" بأذى لأنه ببساطة "جدع"، حتى أصبحت المروءة والشهامة صفات تفردت بها الشخصية المصرية وغدت جزءًا من تكوين المصريين.
فى حوار مع صديقتى الإسبانية حول الفرق بين المجتمع المصرى والشرقى بصفة عامة والمجتمعات الغربية ذكرت لى حادثًا تعرضت له فى شوارع القاهرة حينما حاول لص يستقل دراجة بخارية سرقة حقيبتها فى غفلة منها، فأخذت تصرخ بالإسبانية مرة وبالإنجليزية مرة أخرى وببعض الكلمات العربية مما تعلمت، ولأننا شعب "نحب نخدم" أسرع المارون نحو اللص حتى أمسكوا به و"عينك ما تشوف إلا النور" خرج من بين أيديهم غارقًا فى دمائه بعد محاولتهم نيل شرف الوصول لوجهه بلطمة أو لمؤخرته بـ"شالوط" حتى إن حضر أحدهم متأخرًا وسأل عن أمر هذا الشاب وبمجرد سماعه كلمة "لص" لا يمر سوى أن يترك بصمة كفيه على وجهه، قبل أن يمضى فى طريقه، وعادت الحقيبة لصاحبتها التى فوجئت برد فعل الناس وانهالت عليهم بكلمات الشكر والمدح بجميع اللغات.
سألتنى الفتاة الأوروبية، تخيل لو حدث هذا الموقف فى بلدى – إسبانبا – ماذا يمكن أن يكون رد فعل الناس فى الشارع؟ فأجبت فى ثقة: لن يختلف عما قام به الناس فى مصر، فابتسمت وقالت: لن يأبه أحد من المارين بصراخى وعويلى، وسيمضون إلى حيث هم ذاهبون!
وما إن انتهت من حديثها حتى شعرت بالنشوة والفخر يملآنى وقلت فى قرارة نفسى "لا ده إحنا جدعان قوى".
لم تستقر تلك الصورة فى ذهن الفتاة الأوروبية طويلا، ففى يوم كانت عائدة إلى منزلها بوسط البلد، اعترضها ثلاثة صبية، على وجوههم ابتسامة مبهمة، فبادلتهم الابتسامة نفسها من باب المجاملة، فظنوا أن "السنارة غمزت"، وطبعًا "الستات الأجانب بيموتوا فى المصريين عشان المصرى معروف بجبروته".
اقتربوا منها حتى أحاطوها من كل جانب، كإحاطة القطيع فريستهم قبل التهامها، انتابها القلق، وحاولت أن تسألهم بالإنجليزية عن مرادهم وإن كان بوسعها مساعدتهم، قدمت لهم حقيبتها اعتقادًا منها أنهم لصوص، بل هم أضل سبيلا.
وفجأة، انهالوا على جسدها يتحسسونه وكلما رفضت وأظهرت سخطها ظنوا أنها تتمنع، فيتجاذبونها بعنف وقسوة، وصرخت فى المارين تطلب المساعدة لكن فى تلك المرة دون جدوى، ولم يجد صراخها مكانًا فى النفوس.
حكت لى هذا المشهد القاسى وعينيها تتلألآن بالدموع ، كيف يمكن أن يحدث هذا على مرأى ومسمع من الناس، ولم يحرك أحدهم ساكنًا للزود عنها، وإن كان هؤلاء هم المصريون، فمن إذن الذين أعادوا لها حقيبتها؟ هل تخلى أهل مصر عن شهامتهم بين ليلة وضحاها؟
أجبتها فى أسف: فى بلادى المرأة هى الجانى والمجنى عليه فى نفس الوقت
إذا وقفنا أمام هاتين القصتين ، يعتقد البعض أننا بصدد نموذجين مختلفين من المصريين، والواقع أنه لا اختلاف بينهما، فمن قاموا بنجدة الفتاة الإسبانية مع اللص ، هم نفس الأشخاص الذين لم يأبهوا بتحرش الصبية بها، وذلك لأننا نعيش فى مجتمع ذكورى متناقض، يحتفظ فيه الرجل بمكانته وباحترام الناس له مهما ارتكب من حماقات، بينما المرأة فليس لها من شفيع ، نرفض أن ينال الآخرون من نسائنا ولو باللفظ ، بينما لا نرى غضاضة أن ننال من نساء الآخرين .
ورغم شيوع التحرش فى الشارع المصرى، لم نلمس تحركًا ملموسًا من مؤسسات الدولة للقضاء على الظاهرة ، فكل القوانين الصادرة ضد المتحرش لم تكن رادعة ولم نسمع عن إضافة درس فى كتب التربية والتعليم يتناول القضية ويحاول معالجتها، علمًا بأن هذا السلوك غالبًا ما يخرج من طلاب فى مراحل التعليم المختلفة، ولم يخرج يوم الجمعة خطيب يتحدث عن حرمانية التعرض للنساء، ناهيك عن أغانى " أديك فى الأرض تفحر" وأمثالها التى لم نجنِ من ورائها إلا جيلا من "الهمج"، رغم أن فلك المحللين والخبراء عند تفسير تلك الظاهرة، يدور حول الحالة الاقتصادية السيئة وما نتج عنها من بطالة وتأخر سن الزواج، أدى ذلك لكبت جنسى يعانى منه الشباب، أقول لهم أى كبت جنسى يا سادة عند صبية لم يتعد عمرهم الـ15 عامًا.