إن أى مجتمع إنما تتكون أمته من الذكور والإناث، وهذا التنوع هو تعبير عن إرادة الله وقد بين سبحانه أن العلاقة بين النوعين: بداية هى المساواة فى أصل الخلق فقال تعالى فى سورة النساء آية 1: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً»، فلا يوجد تمييز لرجل عن المرأة فى أصل الخلق فقد خُلِقا من نفسٍ واحدة، كذلك بيّن سبحانه أن هناك مساواة بين الرجل والمرأة فى التكريم أيضاً فقال فى سورة الإسراء آية 70: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ» فلم يخص سبحانه الرجل بالتكريم وإنما قال: بنى آدم سواء كانوا رجالاً أو نساءً، ثم أكد الله هذه المساواة فى دائرة التكليف فقال فى سورة آية 56: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» فالعبادة فى هذه الآية تشمل جميع أوجه التكليف سواء المرتبطة بالشعائر الدينية من صلاة وصيام وحج، أو المرتبطة بإعمار الأرض ومنها العمل العام، فكل من الرجل والنساء مكلف بهذا المعنى الشامل للعبادة دون أى تفرقة بينهما، ولذلك عندما ذكر الأستاذ قاسم أمين رؤيته حول تحرير المرأة، وحتمية مشاركتها فى العمل والشأن العام لم يكن يحرّف الإسلام كما ادّعت جماعات الظلام وإنما كان يعلن حقيقة ما ورد فيه ويعبر عن فهم صحيح للدين.
ولما كان العمل العام من المنظور الإسلامى مندرجاً تحت فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، التى تشمل كل تكاليف الوطنية وأحكام السياسة والاجتماع والاقتصاد والآداب العامة ومنظومة القيم والأخلاق والعادات والأعراف، فلقد شرّع القرآن الكريم لمبدأ المشاركة بين الرجال والنساء فى كل هذه الميادين عندما قال فى سورة التوبة آية 71: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»، وهذه المشاركة والمساواة ظهرت من اللحظة الأولى لبعثة النبى، ويكفى القارئ الكريم لتأكيد ذلك أن الأمة الإسلامية بدأت بامرأة هى: خديجة بنت خويلد رضى الله عنها، وظلت الأمة الإسلامية متجسدة فى هذه المرأة حتى بدأت دائرة الإيمان بالدين الجديد تضم السابقين والسابقات إلى الإسلام، فآمنت رقية بنت رسول الله، وكان أبوبكر الصديق رضى الله عنه أول المؤمنين من الرجال، وعلى بن أبى طالب أول المؤمنين من الفتيان، ولهذا جعل الإسلام للمرأة بيعة خاصة تدخل بها إلى الإسلام وأمته، مثلها فى ذلك مثل الرجل سواءً بسواء قال تعالى فى سورة الممتحنة آية 12: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»، ولقد استمرت حياة السيدة خديجة سلسلة من المشاركات العامة والخاصة حتى جاءها الموت، وسمى النبى عام موتها «عام الحزن» وأظن أنه كان يقصد الحزن العام وليس الحزن الخاص، فالسيدة خديجة رضى الله عنها كان لها دور جوهرى واستراتيجى فى خدمة الأمة كلها وليس الرسول فقط.
وقد شاركت المرأة فى عهد الرسول فى الجهاد ضد الظلم والقهر وكانت فى طليعة الشهداء فى الإسلام، فالسيدة: سمية بنت الخياط أم عمار بن ياسر هى أول شهيدة فى الإسلام وقد بدأت المشاركة الدامية بالروح والحياة لوقف الظلم والقهر، وكذلك شاركت المرأة فى العزل والحصار الاقتصادى والاجتماعى اللذين فرضهما الشرك على المؤمنين ومن ناصرهم فى شعب بنى هاشم ثلاث سنوات تحملت المرأة فيهما ما تحمله الرجال بل أكثر، بحكم مسؤوليتها عن المعاش وعن الأطفال، فى الهجرة الأولى إلى الحبشة شاركت المرأة فكان هناك ثمانى عشرة امرأة مع ثلاثة وثمانين رجلاً.
و مع تأسيس الدولة وبداية العمل السياسى والدستورى شاركت المرأة المسلمة فى بيعة العقبة التى كانت بمثابة الجمعية العمومية لعقد تأسيس الدولة ذات الأغلبية الإسلامية فمن بين الخمسة والسبعين الذين عقدوا مع رسول الله عقد تأسيس هذه الدولة، كانت هناك امرأتان هما: أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية، وأم منيع أسماء بنت عمرو بن عدى الأنصارية، وعندما جاءت لحظة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة وبداية تمكين الدعوة الإسلامية شاركت المرأة أيضاً فأسماء بنت أبى بكر التى ائتمنت على سر الهجرة ونهضت بالمشاركات العملية فى إنجاح هذا الإنجاز العظيم ولقد جاء فى الصحيحين رواية عنها أنها قالت: «تزوجنى الزبير وما له فى الأرض من مال ولا مملوك ولا شىء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقى الماء وأخرز غربه وأعجن ولم أكن أحسن أخبز وكان يخبز جارات لى من الأنصار، وكن نسوة صدق وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التى أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسى وهى منى على ثلثى فرسخ، فجئت يوما والنوى على رأسى فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار فدعانى ثم قال إخ إخ ليحملنى خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى قد استحييت فمضى فجئت الزبير فقلت لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسى النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك فقال والله لحملك النوى كان أشد على من ركوبك معه قالت حتى أرسل إلى أبوبكر بعد ذلك بخادم تكفينى سياسة الفرس فكأنما أعتقنى»، ففى هذه الرواية يتضح بصورة كاملة مشاركة المرأة للرجال فى الشأنين العام والخاص وكيف أن هذا المبدأ كان راسخاً منذ بداية الإسلام.
المرأة فى الإسلام كان لها أثر فى مصالح المسلمين الاستراتيجية ولم تكن مشاركتها صورية، وجميع المسلمين يعلمون أن طائفة عظيمة من الأحاديث النبوية على اختلاف مواضيعها قد رويت عن عائشة وأم سلمة، وغيرهما من أمهات المؤمنين ونساء الصحابة، وأن عددا غير قليل من النساء اشتهرن بخدمة العلم وجودة الشعر، وأن عائشة تداخلت فى مسألة الخلافة العظمى وكانت شبه رئيسة للجبهة المعارضة لأحد الخلفاء، ولها خطبة سياسية مشهورة ألقتها عند دخولها البصرة لتحمل الناس على الانضمام إلى الطائفة التى كانت قد انحازت إليها وقالت فيها: «إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم الرسول وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة الرسول مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين عثمان بلا ترة ولا عذر، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، أحلوا البلد الحرام والشهر الحرم، ومزقوا الأعراض والجلود، وأقاموا فى دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت فى المسلمين أعملهم».
جميع ما سبق يؤكد أن الأستاذ قاسم أمين عندما قال فى كتابه تحرير المرأة: «سبق الشرع الإسلامى كل شريعة سواه فى تقرير مساواة المرأة للرجل فأعلن حريتها واستقلالها يوم كانت فى حضيض الانحطاط عند جميع الأمم، وخولها كل حقوق الإنسان، واعتبر لها كفاءة شرعية لا تنقص عن كفاءة الرجل فى جميع الأحوال المدنية من بيع وشراء وهبة ووصية من غير أن يتوقف تصرفها على إذن أبيها أو زوجها.. لكن واأسفاه قد تغلبت على هذا الدين الجميل أخلاق سيئة ورثناها عن الأمم التى انتشر فيها الإسلام، ودخلت فيه حاملة لما كانت عليه من عوائد وأوهام «كان يريد بهذه العبارات عودة الناس إلى صحيح الإسلام، فالمرأة شريك أساسى فى الحياة ولا يصح أبداً تعطيلها وحرمان المجتمع من مشاركتها، ولن ننسى أبداً الدور البطولى للمرأة المصرية فى تاريخنا المعاصر بداية من ثورة 1919 وامتداداً إلى ثورتى 25 يناير و30 يونيو.
محمد أبو حامد
خواطر حول تجديد الخطاب الدينى «22» حتمية مشاركة المرأة فى الشأن العام
الأحد، 19 أكتوبر 2014 11:20 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة