يعد د. سليم العوا من المجددين فى الفقه الإسلامى.. ومن الذين أحسنوا الجمع بين النص الشرعى والواقع العملى ربطاً صحيحاً ومن الذين أحسنوا قراءة النص الشرعى قراءة صحيحة، والواقع العملى قراءة متأنية دقيقة.. وكلنا يعلم أن أزمة الحركات الإسلامية المستعصية بعضها يكمن فى القراءة الخاطئة للنص الشرعى، وبعضها يكمن فى القراءة الخاطئة للواقع العملى الذى نعيشه الآن.. وبعضها يخطئ فى إنزال هذا على ذاك.
وكلنا يدرك أن أزمة داعش على سبيل المثال، أنها ممن يقرأ الإسلام من نعله، كما عبر الشيخ محمد الغزالى، «أن هناك أقواماً يقرأون الإسلام من نعله» أى يقرأونه ويفهمونه «بالشقلوب» كما يقول العوام.. وهذه كارثة ما بعدها كارثة.
أولاً: إضافة مقاصد جديدة للشريعة: من أهم القضايا الهامة التى كان للدكتور العوا النصيب الأكبر فى التجديد الأصولى والفقهى فيها هو إضافته العميقة والقيمة لمقاصد الشريعة الخمسة.. فكلنا يعلم أن الفقهاء القدامى ذكروا خمسة مقاصد فقط للشريعة الإسلامية.. وعلى رأس هؤلاء الفقهاء العظام الأب الروحى لعلم المقاصد الشرعية الإمام الشاطبى الذى نص مع غيره عليها، وهى «حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل».
والحقيقة أننى اعتبر أن أهم إنجازات د. العوا الفقهية، هو الإضافة مع غيره من الفقهاء إلى هذه المقاصد بما يتلاءم مع متطلبات هذا العصر الحديث.
يقول د. العوا فى حوار أجراه معه فى لندن صديقى الأديب محمد عبد الشافى القوصى ما نصه: ومقاصد الشريعة تدور حول حفظ أمور خمسة، وهى حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال.. ولكن هذه الأصول الخمسة ليست نهائية وليست قائمة محصورة.. ولكنها مفتوحة يمكن أن يضاف إليها إلى يوم القيامة وألا يحصى من المقاصد من خلال النظر المتجدد فى أصول الإسلام من القرآن والسنة.. فهناك مقاصد جديدة يمكن أن نضيفها للمقاصد الخمسة.. ومنها مقصد العرض وليس المقصود به الشرف.. وإنما السمعة أيضا ً.. ومقصد العدل الشامل فردياً واجتماعياً، وكذلك مقصد الحرية وليس المقصود بها العتق من الرق كما كان يحدث فى صدر الإسلام.
والمقصد الجديد الذى يضاف إلى ما سبق – من وجهة نظرى – هو الحرية فى التفكير والتعبير والممارسة السياسية.. هذا بالإضافة إلى مقاصد أخرى مثل مقصد المساواة أو مقصد حقوق الإنسان.. وهذه القائمة التى بدأت بخمسة مقاصد، ويضاف إليها ما يستجد، تقوم على أن ما دخل فيها لا يخرج منها.. ومن هنا أطالب المشتغلين بالعمل السياسى بضرورة العمل لتحقيق المقصد الأسمى للشريعة الإسلامية وهو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه.
وبهذا يضيف د. العوا إلى المقاصد الخمسة مثلها فى سبق أراه عظيماً ورائعاً ولا يجسر عليه إلا أمثال العوا والقرضاوى والزحيلى والزرقا ومصطفى شلبى والبشرى وكمال إمام وحسن الشافعى وغيرهم من المجددين فى الفقه الإسلامى المعاصر.
وهذه الخمسة الجديدة هى:
1 - مقصد العدل: بمعناه الشامل سواء على المستوى الفردى أو الاجتماعى أو العام.. ولا أدرى كيف غفل الفقهاء القدامى عن هذا المقصد العظيم.. فبالعدل وللعدل أنزل الله الكتب وأرسل الرسل وأقام الجنة والنار والميزان والحساب.. وما قامت الأمم والدول إلا بالعدل وما هلكت إلا بالظلم.. وأنا أعتبر أن العدل هو المقصد الثالث للشريعة الإسلامية بعد حفظ الدين والنفس.. هذا إن كان لمثلى رأى فى مثل هذه القضايا الشائكة.
2 - مقصد الحرية : وهو من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية من وجهة نظر هؤلاء الفقهاء.. وقد ذهب قدامى الفقهاء إلى تضييق معنى الحرية فى التحرر من الرق كما كان فى صدر الإسلام.. ولكن الحرية ها هنا تكون بمعناها الواسع الشامل.. وإذا كان الإسلام قد حرر الرقيق فهو جاء ليحرر الكون كله، ويطلق ملكات البشر شريطة ألا تؤذى حريتك حرية الآخرين أو تستلب أو تعتدى على حقوقهم.
واعتقد أن مقصد الحرية من أعظم مقاصد الشريعة وأهمها.. والحرية التى يعنيها د. العوا ومن سار فى ركبه من الفقهاء المحدثين هى الحرية بمعناها الشامل من الحرية فى التفكير والتعبير والممارسة الفكرية والسياسية.
3 - مقصد المساواة : وهذا المقصد الجديد سيحل إشكاليات قديمة كثيرة كانت فى الفقه القديم.. وكانت تحول بين تقدم الدولة الوطنية التى تساوى فى الحقوق والواجبات بين رعاياها.. دون أن يكون هناك رقيق أو جزية على المسيحيين أو اليهود أو غيرهم.. أو دون قبول الجنسيات أو المذاهب المختلفة فى الدولة.. فهناك دول مثل العراق أو لبنان فيها عشرات الأعراق والمذاهب.. فإن لم تتم المساواة بينهم حدث تمزق لهذه الدولة وتفتت كما يحدث الآن.. فالمساواة بين الناس أمام القانون هى التى جعلت دولة مثل أمريكا تحوى آلاف الأعراق والمذاهب والأديان لتذوب كلها فى بوتقة الدولة الوطنية الأمريكية التى تحفظ للناس حقوقهم فى مقابل أن يؤدى كل واحد منهم حقه، ولا يخل بالأمن أو يخرق القانون.
4 - مقصد حقوق الإنسان : وهو مقصد جديد سيحل إشكاليات كثيرة تقع بين الدولة الإسلامية من جهة والمجتمع الدولى من جهة أخرى.. فعلى سبيل المثال ينص بعض الفقهاء القدامى على جواز تعذيب المشتبه فيهم حتى يقر بجرمه.. وهذا مخالف لأحاديث كثيرة صحيحة ثابتة تنهى عن التعذيب.. فضلا عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك أو يقره طوال حياته.. فحينما يضاف إلى المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية مقصد حقوق الإنسان عامة.. فإن ذلك سيحل إشكاليات كثيرة فى الحياة العامة وفى الفقه الإسلامى.. ومنه ذلك النموذج الذى ذكرته.. والأمثلة الأخرى كثيرة.. وقد أحسن د. العوا حينما أضاف مع غيره هذا المقصد الهام.
4 - مقصد العرض : ويسميه بعض الفقهاء مقصد النسل وقد توسع فيه العوا.. وقال إنه لا يعنى فقط المحافظة على العرض من الزنا أو اللواط وغيرهما من مثل هذه الكبائر.. ولكن أيضاً الحفاظ على سمعة الإنسان والدفاع عنها، كى لا تمس ولا يطعن فيها بغير حق.. أو تستهدفه الصحف أو الإعلام مثلاً بالتشهير أو الإساءة دون وجه حق.
ولعل القرآن أشار إلى بعض هذه المعانى فى قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَة» فالرمى ليس قاصراً على المحصنات وليس قاصراً على الرمى بالزنا.. فالرمى بالخيانة أو التآمر أو الكفر بغير حق، أو ما شابه ذلك يدخل فى مثل هذه الأبواب.
ثانيا ً: فتح باب الاجتهاد: ومن أهم القضايا الفقهية التى تصدى لها د. العوا وكل أصدقائه وتلامذته بدعة «غلق باب الاجتهاد» التى انتشرت فى أوائل وأواسط القرن العشرين.. وهل للاجتهاد باب يغلق ؟!.. ومن يملك غلقه؟!
ولعل معظم علم وعمل د. العوا وجميع أساتذته وتلامذته، كان رداً لهذه البدعة التى كادت أن تصيب العقل الإسلامى الفقهى فى مقتل وكادت أن تحجر عليه وهو فى ريعان الصبا، والدنيا كلها تنتظر اجتهاداته الحديثة فى كل المسائل التى تمخضت عنها الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة صباح مساء.. فإذا بالدكتور العوا يصرخ فى الدنيا كلها.. محذراً من غلق باب الاجتهاد الذى ابتدعه بعض الدعاة والعلماء فى بدايات القرن العشرين لسبب أو لآخر..ظنا منهم أن فى ذلك حماية للدين ولكنهم لم يدركوا أن ذلك سيعزل الدين تماماً عن الحياة.
فقد كاد هذا الإغلاق أن يؤدى إلى موات للفقه الإسلامى، ومن ثم الشريعة الغراء فى أحرج وقت مر به المسلمون.. حيث ماتت خلافتهم وتخلفت بلادهم واستعمرت دولهم وتقدمت الدول الغربية فى الوقت نفسه تقدما هائلاً فى كل المجالات.
يقول د. العوا فى حوار رائع مع صديقى القوصى: «فى الأصل أن الاجتهاد ليس له باب يغلق، ولا دار تهدم! ولكنها إشارة إلى الجمود الذى أصاب الحياة الفكرية والاجتماعية، والحقيقة أن باب الاجتهاد سيظل مفتوحاً إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، لأن وقائع الناس متجددة وغير متناهية.
ويقول أيضا ً: «هناك فقط ضوابط للاجتهاد يجب عدم تجاوزها خاصة فيمن يقومون بإفتاء الناس، وعلى أهل الفكر الإسلامى ألا يضيقوا باختلاف الرأى، لأنهم لو فعلوا ذلك يكونون كمن حجّر الفقه وهو ما يضيق نطاق الدعوة الإسلامية».
وحينما سئل عن الوجهة الصحيحة للاجتهاد فى أيامنا هذه.. قال: «أعتقد أن الاجتهاد الإسلامى الذى يستحق أن يوصف بأنه اجتهاد إسلامى هو الاجتهاد فى كشف المقاصد، وإخضاع الأحكام فى كل المجالات لها؛ لأن أى حكم أو تصرف لا يحقق المقصد منه فلا ثمرة له، وهو باطل من أساسه.. والاجتهاد عندنا يتوجه شطر الغايات العظمى للإسلام ليحققها ويبيح ما يؤدى إليها ويجافى وجهه عن عكسها وضدها ونقيضها فلا يأذن فيه ولا يسكت عنه، ولم يعد يكفى أن يكون الاجتهاد فردياً مع ضرورته ولا مؤسسياً مع ندرته ولكنه أصبح لازماً أن يوجه نحو تصويب التشريعات والنظم التى تصدر فى دول الإسلام، بعدما أصبحت الشريعة الإسلامية مصدر هذه التشريعات أو أحد مصادرها.