لم يعد مناسبا ولا مقبولا أن تظل البرامج الحوارية أو "التوك شو" على الفضائيات المصرية تعمل بمنطق البحث عن فضيحة أو إشعال حريق وبث فتنة هوائية لزوم التسخين وشد الأنظار، فهذا الأسلوب تخطاه الزمن، وأصبح موضة فضائية قديمة ومرفوضة أيضا، بعدما ثبت أن المجتمع لم يجن من ورائها سوى الصوت العالى والألفاظ النابية ووصلات الردح والسب والتشويه والتكفير، وكل هذا لا تحتاج إليه مصر الآن، وتحديدا فى هذه المرحلة التى لا تحتمل وجود من يسعى لشق الصف الموحد ولا من ينقب بإبرة عن المشاكل لإثارتها، من أجل الشعبية ولا من يحترف سكب الزيت على النار.
ما تعلمناه وتربينا عليه أن الإعلام ليس دوره أبدا اللعب على المتناقضات ولا اختلاق المعارك وخصوصا فى الفترات المفصلية والحاسمة من عمر الوطن، وإنما الإعلام وعلى رأسه الآن برامج التوك شو، ومن يقومون عليها من المفترض أنها تكون فى هذا الظرف التاريخى لمصر فى مقدمة من يتحملون المسئولية الوطنية تجاه دولتهم، ويقومون بدورهم فى تغيير ثقافة المجتمع وبث الروح الإيجابية، وتشجيع الفكر المعتدل والبحث عن أصحاب الأفكار التى تسهم فى بناء مصر.
لقد ظهرت هذه النوعية من البرامج وهذه الفئة من المذيعين فى فترة اتسمت بالعشوائية فى كل شىء، كما كانت فترة تتميز بالغضب الشعبى بفعل الظلم الاجتماعى والقهر السياسى، وبالتالى لم يكن غريبا أن تسيطر العشوائية أيضا على الإعلام، ويستغل البعض حالة الاحتقان لينسج عليها برامج يمكن وصفها بالعنيفة، ولأن العشوائية كانت مسيطرة ونتيجة عدم وجود معايير تحكم الأداء الإعلامى، بل والمجتمعى بشكل عام فقد كان طبيعيا أن نجد كثيرا من ملاك القنوات وكثيرا من مقدمى البرامج يفعلون ما يحلو لهم بلا رقيب ولا حسيب ويفرضون على المشاهد المصرى وجبات إعلامية لم يخترها ولم يتعودها من قبل، ولكنها إجبارية، ورغم محاولات بعض أصحاب المبادئ من ملاك القنوات وبعض المتعقلين من المذيعين التعامل بمهنية وموضوعية، إلا أنهم لم يتمكنوا من فرض إرادتهم أمام غلبة المزايدين والمتاجرين، لكن لكل أمر نهاية وقد حان الوقت لإنهاء هذه المهزلة، بل لابد من وقفة لنسأل أنفسنا بصراحة.. هل الإعلام المصرى يؤدى دوره تجاه بلده؟
لو طرحنا هذا السؤال واجبنا عليه دون تحيز ودون تأثيرات شخصية فالمؤكد أن الإجابة لن تكون فى صالح الإعلام، لأن السمة الأساسية للخريطة البرامجية فى معظم الفضائيات لم تكن مصممة على ما يخدم مصلحة البلاد وإنما وضعتها أغراض سياسية أحيانا وإملاءات إعلانية أحيانا أخرى، فكانت سياسات القنوات تحدد من داخل شركات الإعلانات أو بأوامر الأحزاب والتيارات السياسية والأجندات المرتبة بها، وكل هذا ليس فى صالح البلد ولا الإعلام أيضا.
الخلاصة إذن أن فكر التوك شو نفسه يحتاج لمراجعة وإعادة تقييم وتجديد يتماشى مع ظروفنا السياسية والاقتصادية كى يسهم فى عملية إعادة البناء، ويحافظ على ما بقى من قيم ظلت صامدة طوال السنوات الماضية.
وأيضا لم يعد مطلوبا أن يظهر على الشاشات المذيعين الشتامين والمدعون، فهؤلاء على مدار السنوات الماضية كانوا جزءا مهما من أسباب انهيار مستوى الحوار السياسى فى المجتمع، كما حان الوقت كى يحصل المذيع المناضل والمذيع الناشط والمذيع الزعيم على أجازة مفتوحة من الشاشة، ليبقى فقط أصحاب المهنة وأهل الخبرة ممن يجيدون دور المذيع المحاور المحايد ويتمسكون بالتقاليد الإعلامية الراسخة.
لقد أصبح فرضا واجبا على الجميع تغليب مصالح الوطن على الأولويات الأخرى، وإذا لم يحدث هذا فسوف يدفع الإعلام نفسه ثمنا غاليا.