أذكر أننى فى عام 2010 سافرت إلى الإسكندرية بسيارتى نهارًا وعدت ليلًا فوجدت نصف الطريق الصحراوى من الإسكندرية حتى الريست هاوس مظلمًا، كتبت مقالًا وقتها أطلب من زير النقل أن يضىء الطريق لأن الحوادث فى أكثرها تحدث عليه ليلًا بسبب السرعة، وبسبب خروج سيارات النقل من القرى الجانبية دون انتباه للطريق، وطبعًا بسبب المقطورات.. بعد شهر آخر من المقال سافرت ليلًا فوجدت الطريق كله مظلمًا، كتبت بعدها مقالًا ساخرًا أشكر السيد الوزير الذى استجاب لطلبى، وتذكرت كيف كانت هناك أزمة فى العام الأسبق على ذلك المقال فى مكاتب السجل المدنى بسبب زحام الناس لاستخراج شهادات ميلاد لأبنائهم لبطاقات التموين الجديدة التى قررت ذلك الوقت، وكيف يجد الناس الكومبيوترات تقريبًا متوقفة أو معطلة لسقوط السيستم!
كانت البرامج التليفزيونية تهتم بهذه الظاهرة العجيبة، وكتبت يومها مقالًا أتساءل: أليست قواعد البيانات فى كل الأجهزة بمكاتب السجل المدنى على مستوى الجمهورية؟، لماذا إذن يكون على كل شخص استخراج بياناته من الجهة التى بها عنوانه بالبطاقة الشخصية فقط؟، لماذا لا يستطيع أن يستخرج ما يشاء من شهادات وبيانات من أى مكان مادامت قواعد البيانات فى كل الأجهزة؟، وضربت مثلًا بشخص من دمنهور وسافر إلى الإسكندرية، لماذا لا يفعل ذلك فى الإسكندرية، وهكذا مما سيخفف الضغط على مكاتب السجل المدنى؟.. وتحدثت عن سجل مدنى فى مبنى الإذاعة والتليفزيون أقوم باستخراج كل ما أريده منه رغم أن عنوانى ليس على الإذاعة والتليفزيون طبعًا، وشكرت الإذاعة والتليفزيون على ذلك.. بعد شهر أردت استخراج شهادة ميلاد لأحد أبنائى فاعتذرت الموظفة، وقالت لى لا بد أن تكون موظفًا فى التليفزيون أو الإذاعة، قلت لها أنا أتعامل معهما، قالت صدر قرار بوقف التعامل فى السجل المدنى إلا للموظفين فقط.. وجدت جوارى أحد الممثلين فى حالة غيظ لأنهم رفضوا استخراج ما يريد أيضًا، فهو ممثل حقًا لكنه ليس موظفًا فى التليفزيون.. ضحكت وقلت له أنا آسف جدًا أنا السبب، سألنى: كيف؟، حكيت له ما كتبت، فقال ضاحكًا: إنت اتجننت؟، معقول لا تعرف أن هذه الدولة إذا عرفت شيئًا يسهل حياة الناس تسده، هذه دولة ليس لها من عمل إلا قريفة الناس وإتعابهم على الفاضى.. ضحكنا وحكيت له حكاية الطريق المظلم، فقال: شفت، وتذكرت مقالات كثيرة عن أمور بسيطة لم تحل فعلًا، بل تعقدت.
فى الحقيقة كان هذا ديدن النظام وطريقته أيام مبارك!.. بعد ثورة يناير طبعًا كان هناك تخبط، لكن الآن الحكومة تقول إنها تعمل ونحن نرى رئيس الوزراء كل يوم فى مكان، لكن هل حين يصدر رئيس الوزراء قرارًا بالعلاج لأى شخص فى أى مستشفى خلال الأربع والعشرين ساعة الأولى بصرف النظر عن كونه حاملًا لبطاقة تأمين صحى أم لا، هل حين يصدر قرارًا بذلك نرى بعد صدوره بشهر أو شهرين طفلًا يدور به أهله على المستشفيات لتعالجه، وهو شبه مقطوع العنق، وينزف حتى يموت لأن ثالث مستشفى، وهو عين شمس التخصصى الذى هو مزيج من القطاع العام والخاص رفض استقباله قبل أن يدفع أهله عشرة آلاف جنيه؟!، هل هذا هو الرد على قرار رئيس الوزراء؟، أم كالعادة «عادت ريمة لعادتها القديمة» ونحن لا نفعل إلا ما يزيد الناس قريفة ويأسًا، ولا تكلمنى حتى عن القرارات، ليس مهمًا أن هناك قرارًا، المهم أن تتم قريفة الناس حتى لو ماتوا، ويتكرر الأمر مع سيدة راحت لتلد فلم يستقبلها أحد لتلد فى الطريق أمام المستشفى.
هذه الأشياء الصغيرة حين تحدث فى الحياة العادية قد تمر رغم التعب والقريفة، لكن حين تحدث فى الصحة تكون منذرة بالغضب، وما أسهل الغضب الآن.. لقد عرف الناس طريقهم منذ يناير2011.. نبتعد ونذهب للحديث عن الحريات، الدستور كفل العرض على النيابة خلال أربع وعشرين ساعة، لكن من قبل فى عهد السيد عدلى منصور صدر قانون غير دستورى بجعل الحبس الاحتياطى مفتوحًا، ومن ثم مئات ينتظرون المحاكمات بلا محاكمات، وبعضهم يضرب عن الطعام ولا فائدة.. فكرة الشعب يريد، ونحن نفعل ما نريد من جديد.. لنبتعد عن السياسة.. طيب أين نذهب؟ لا مكان، فتسعين فى المائة من المدارس الخاصة رفعت أسعارها بشكل لا يحتمل، ولا أحد تدخل إلا كلامًا سمعناه، سنفعل ونفعل ونفعل، ولا أحد فعل.. السماد ارتفع سعره خمسة وعشرين فى المائة، وهذا يعنى ارتفاع المنتجات الزراعية فى الموسم المقبل، فإذا وضعت ذلك أمام الارتفاع الذى حدث بعد ارتفاع سعر السولار والبنزين تدرك الكارثة القادمة فى الأسعار.. تحدث الكثيرون فى ذلك، ولا أحد استجاب.
الشعب يريد، ونحن نفعل ما نريد! طيب يا عم براحتكم، كل يوم تخسرون أرضًا لا تدركونها، لأن الابتسامة على وجوهكم تظهر فى الصحف، ترون ابتساماتكم فتتصورون أن الناس سعداء.. أما آخر ما نشر فهو تقرير عن القلق لدى بعض الأجهزة من ردود الأفعال عند الناس والشباب على اختلافهم بعد أن رأوا كثيرًا مما كانوا ينشدونه لم يتم، خاصة إلغاء قانون التظاهر، واستبدال قانون يكتفى بالإخطار بدلًا منه، كما يحدث فى العالم كله، فى الوقت الذى يتم فيه التركيز على الحلول الأمنية، وغير ذلك كثير، على عكس ما كان ينتظره الشباب، خاصة شباب يونيو، والكثير من شباب يناير الذين كانوا معهم، ثم تجد أن مصدرًا أمنيًا رفيعًا أشار على الرئيس بألا يلغى قانون التظاهر، لأن ذلك سيزيد من التظاهر، وهناك مصدر سياسى، ومصدر استراتيجى، ومصدر اقتصاذى، وكثير من المصادر التى أشارت كلها على الرئيس بأن يبقى الوضع على ما هو عليه خوفًا من وضع أصعب.
ولا أعرف ما هو أصعب من دخول البوليس الجامعات؟ ولا ما هو أصعب من منظر البودى جاردات فى الجامعة يحملون الشوم، وهم الذين كنا لا نراهم إلا فى شارع الهرم أمام الملاهى الليلية، وربما على أبواب بعض البنوك والسفارات، وطبعًا فى النوادى حيث مكانهم.. هل تعجز الدولة حقًا أن تجد طريقًا للتعامل مع مظاهرات الجامعة بطريقة أسهل تتيح فيها هذه المظاهرات بشكل متحضر؟.. والله لو أرادت الدولة لوجدت ألف طريق وطريق غير ما يتم الآن، لكن هو الطريق القديم يتأكد كل يوم.. وبالنسبة للجامعة لم يحدث هذا أبدًا من قبل.. آه وربنا.. هذا الشعب الذى دفع ثمن الثورة فى زهوها وانكسارها، والذى تبدو الكتلة الأكبر منه الآن فى انتظار الفرج، تزداد فيه مساحة السخط كل يوم وتتسع.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة