إذا كانت مؤسسة جائزة عبدالعزيز البابطين تحتفى بالشعر منذ ربع قرن، فإن مدينة مراكش المغربية تحتفل بالحدائق منذ عشرة قرون! وإذا كان الشعر العربى قد تلقى فى العقود الأخيرة طعنات غادرة دفعت الناس إلى التعامل معه باستهانة حتى جاءت جائزة البابطين لتعيد له بهاءه القديم، فإن مراكش ظلت وفية لعهدها مع الحدائق والبساتين منذ أسس المرابطون أول حديقة مازالت قائمة حتى الآن واسمها (أجدال)!.
يقول لى الشاعر المغربى ابن مراكش والمفتون بها ياسين عدنان إن مدينته تحتوى 30 حديقة يتم التعامل معها باهتمام كبير، وقد اصحطبنا قبل يومين - الصحفى الكبير مصطفى عبدالله وانا - لنتجول فى (عرصة مولاى عبدالسلام) والعرصة تعنى البستان عند أشقائنا المغاربة، ولك أن تعرف أن هذه الحديقة/ العرصة تم تأسيسها فى القرن الثامن عشر!
كأنك تسير بين أبيات قصيدة شعرية بديعة.. هكذا قلت لنفسى ونحن نتهادى بين الأشجار والزهور والنباتات نتلقى روائح ذكية تنعش الصدر وترطب الروح، لذا لم أفاجأ حين وجدت الحديقة مزدحمة بالزوار من أهل مراكش وزائريها من السائحين، لأنها بدت لى مكانا للاسترخاء الروحى والاستمتاع بمباهج الطبيعة واستنشاق الهواء النقى، خاصة أن القائمين عليها تفننوا فى تنسيقها ونظافتها.
بأسى تذكرت المصير الحزين لحديقة الأزبكية التى كانت رئة حية فى قلب القاهرة فى الأيام الخوالى، تلك الحديقة التى شيدها الخديو إسماعيل وأتى لها بكبير منسقى الحدائق فى باريس وتعاقد معه عام 1867 ليؤسس وينظم حدائق القاهرة على طراز عصرى! لقد اغتالت هذه الحديقة يد الجهل والإهمال والقبح والفوضى بكل أسف ولم يبق منها سوى ظلال تذكرنا بأننا كنا نمتلك يوما ما حديقة شاسعة منظمة مترعة بالأشجار والزهور والنباتات الجميلة!
البهجة هو العنوان الأول لمراكش، وهم يصفونها بمدينة البهجة، ومعهم حق، فأينما وليت وجهك ترى عيناك المساحات الخضراء والبنايات الحمراء، والسماء الزرقاء، وقد حافظ مسؤولو المدينة على روحها الشفيفة من قرن إلى آخر، فلا توجد بنايات شاهقة مرتفعة تصطدم العين وتحجب السماء، ولا يوجد لون نشاز يفسد الذوق العام للمدينة المغمورة بظلال حمراء مسالمة تخفف من النور الحاد للشمس، كما أن درجة الرطوبة صفر على الدوام، وعليك أن تتخيل كيف تكون ساعة الأصيل فى مدينة كهذه؟
فى مراكش القديمة.. أنت فى قلب التاريخ، والسور الذى يحيط بالمدينة ويحميها من الغرباء مازال قائما بعد ترميمه وتجديده ليهب المدينة نفحات من عطر الماضى الباذخ، وكما قال لى ياسين عدنا إن (مراكش) تعنى (مر سريعًا) أو (أرض الله)، فإنك ستكتشف أن هذا البلد الأمين يمتلك قدرة مدهشة على اختطاف الوقت فلا ملل ولا ضجر، وإنما مسرات دائمة وهدوء ناعم.
لكن إذا لم تزر ساحة جامع الفنا فأنت لم تمر بمراكش، ولكن دعنا نتحدث عن هذه الساحة الفريدة فى العالم فى مقال آخر، وكفانا كلام اليوم عن الشعر والحدائق!