استعرضنا على مدار أربع مقالات سابقة استغلال أوصياء الدين «قضية التصوير واقتناء الصور» فى تخويف الناس من ربهم، لمجرد قناعة هؤلاء الأوصياء برأى من يرى تحريم التصوير، فأفقدوا البسطاء ثقتهم فى أنفسهم وقلوبهم، لأنهم اختاروا قول من يرى حل التصوير فى حكم الأصل، وركب هؤلاء الأوصياء سلطان الكهنوت الدينى، ليشيعوا بين الناس أن التصوير من الكبائر العظام، وأمروهم باسم الدين أن يتخلصوا من صور ذويهم وأحبائهم، ورموز تاريخهم الإنسانى إلى أن احتاج هؤلاء الأوصياء لتجسيد أنفسهم، وتصويرها بالحجم الطبيعى أو الأكبر منه فى العقود الأخيرة، للترويج عن أشخاصهم، والإعلان عن ترشحهم فى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المصرية لحصد أصوات الناخبين بهذا التصوير الفج، بل تشبه شيوخهم ومرجعياتهم الدينية بنجوم الفن الذى طالما كانوا يصفونه بالماجن، ونجوم الرياضة التى طالما كانوا يصفونها بالملهى عن ذكر الله، فكان شيوخ الوصاية الدينية ومرجعياتها من الإخوان والسلفيين ومشتقاتهم، يباهون بأنفسهم فى التقاط الصور التذكارية مع المعجبين والمعجبات، ويملكون قنوات فضائية أو برامج تليفزيونية تعتمد أساسًا على فن التصوير من غير إصدار فتوى بمشروعيته، فقد مارسوا التصوير من غير ظهير دينى يأذن لهم بذلك، وإنما كان ولا تزال شهوتهم فى التصوير قائمة فى ظل فتاويهم القديمة والسارية لعدم نسخها بمثلها إلى يومنا هذا على أنه حرام ومن الكبائر. والعجيب أن أتباعهم لم يستوقفهم هذا التناقض بين قول أشياخهم بتحريم التصوير وبين ممارسة أشياخهم التصوير على نطاق واسع.
وقد يكون هذا الإغفال من الأتباع أو المريدين بسبب حبهم الشركى لأشياخهم ومرجعياتهم الدينية الذى حذرنا القرآن منه فى قوله تعالى: «ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله» (البقرة: 165)، وأورد الجاحظ (ت 255هـ) فى كتابه «الحيوان» أنه يقال عند العرب: «إن الحب يعمى ويصم».
وقد يكون هذا الإغفال لعدم دراية المريدين بهذا التناقض من أشياخهم فيكون عذرًا أقبح، كما قال سبحانه: «أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا» (الفرقان: 44).
وسواء أكان إغفال أتباع أوصياء الدين ومريديهم عن محاسبة أشياخهم فى تناقضهم مع أنفسهم عندما أعلنوا تحريم التصوير، ثم مارسوه علانية أن يكون ذلك مجاملة من الحب الشركى، أم لعدم الدراية بالتناقض الواضح، فإنهم لن يسلموا من العقاب فى الآخرة، كما قال سبحانه: «ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون» (الأعراف: 179).
وبعد أن توسعنا فى ذكر أهمية «قضية التصوير واقتناء الصور» انتقلنا إلى ذكر النصوص الشرعية التى تفيد بظاهرها مشروعية التصوير، ثم ذكر النصوص الشرعية التى تنهى عن التصوير وبيان علة هذا النهى، ثم ذكرنا أقوال الفقهاء واجتهاداتهم فى حكم التصوير على ضوء الجمع بين النصوص الواردة فيه، وأجملنا تلك الأقوال فى أربعة مذاهب، كما يلى:
(1) أن كل ما يسمى تصويرًا جائز أو مباح فى ذاته فى حكم الأصل. وهو قول بعض الفقهاء أشار إليهم الإمام أبو جعفر النحاس ت 338 هـ، ثم الإمام مكى بن حموش ت 437 هـ، ونقله القرطبى ت 671 هـ فى تفسيره، والألوسى ت 1270 هـ فى تفسيره، ولم يرد تسمية هؤلاء الفقهاء. وحجتهم: ما سبق ذكره من أدلة تفيد مشروعية التصوير؛ خاصة مع عموم قوله تعالى فى حق سليمان عليه السلام: «يعملون له مايشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب» (سبأ: 13)، وأخرج البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - أنها كانت تلعب بالبنات (التماثيل والصور التى يصنعها البنات) عند النبى صلى الله عليه وسلم. وأخرج مسلم عن الربيع بنت معوذ أنها كانت تصنع اللعبة من العهن (الصوف المصبوغ) لتلهى الصبيان عن الطعام حتى يتموا صومهم ليوم عاشوراء. وأما الأدلة الناهية عن التصوير فتحمل على ما يعبد من دون الله.
(2) أن كل ما يسمى تصويرًا حرام فى ذاته فى حكم الأصل، وقيل إنه كبيرة. وهو قول الشافعية فى وجه، وروى عن مجاهد بن جبر المكى التابعى شيخ القراء والمفسرين ت 104هـ، وحكاه مجاهد عن ابن عباس ت 68هـ. وحجتهم: ما سبق ذكره من أدلة تنهى عن التصوير؛ خاصة عموم ما أخرجه الشيخان عن ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون». وأما الأدلة التى تفيد جواز التصوير فمنسوخة، أو محمولة على لعب الأطفال، أو البساط الممتهن.
(3) أن تصوير النبات والجماد جائز. أما تصوير الإنسان والحيوان فإن كان مسطحًا فيجوز وإن كان تمثالًا فيحرم فى الجملة. وهو مذهب المالكية وابن حمدان من الحنابلة وبعض السلف. وحجتهم: أن علة النهى عن التصوير هى مضاهاة خلق الله فيما يمكن نفخ الروح فيه، والصور المسطحة ليست كذلك، فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من صور صورة فى الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ»، وعن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم».
(4) أن تصوير النبات والجماد جائز. أما تصوير الإنسان والحيوان فحرام، سواء أكانت الصورة مسطحة أم تمثالًا. وهو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة، وزعم الإمام النووى الإجماع فيه. وحجتهم: أن علة النهى عن التصوير هى مضاهاة خلق الله فيما له روح، وهذا يتحقق فى الصور المسطحة والتماثيل على السواء. فقد أخرج البخارى عن عائشة قالت: حشوت للنبى صلى الله عليه وسلم وسادة فيها تماثيل، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال هذه الوسادة»؟ قالت: جعلتها لك لتضجع عليها. فقال صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، وأن من صنع الصورة يعذب يوم القيامة يقول أحيوا ما خلقتم».
وقد اختار المصريون المذهب الأول الذى يرى مشروعية كل ما يسمى تصويرًا فى حكم الأصل، وهو ما ذهب إليه بعض الفقهاء دون معرفة أسمائهم؛ لثقة المصريين وحسن ظنهم فيمن نقل ذلك عنهم كالإمام أبى جعفر النحاس ت 338 هـ فى تفسيره، كما نقله الإمام مكى بن حموش ت 437 هـ ونقله عنه الإمامان القرطبى والألوسى وغيرهما.
وكان اختيار المصريين لهذا المذهب الذى يجيز التصوير فى المطلق فى حكم الأصل مع عدم معرفتهم بأسماء القائلين به، مبنيًا على إيمانهم بأن العبرة بالرأى وليس بصاحبه، فعبادة الله تعالى تكون بالقناعة بالحق ولا تكون باتباع الأشخاص.
ويرفض المصريون فى الجملة فكر الجماعات الدينية القائم على السمع والطاعة العمياويين للأمير أو للمرشد، الذى يزعم ولايته الدينية على أتباعه؛ لأنه أول الفارين منهم يوم القيامة، كما قال تعالى: «إذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب» (البقرة:166)، ولأن الله تعالى أبى إلا أن يكون الدين له، بما يجعله حقًا لكل إنسان بفطرته السوية وقلبه السليم، كما قال سبحانه: «ويكون الدين كله لله» (الأنفال:39)، وعلى المسلم الحق أن يثق فى اختيار قلبه عندما يبحث عن دين الله، ولا يسلم دينه لمخلوق، ولو كان أفقه الفقهاء؛ لما أخرجه أحمد بإسناد حسن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لوابصة بن معبد: «استفت قلبك استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك».
وتنطلق قناعة المصريين بقول من يرى مشروعية التصوير فى الجملة من ارتقاء حضارة الإنسان ومدنيته بحسب مرتبته فى تحصيل العلم والخبرة التراكمية، والتى أظهرت بما لا يدع مجالًا إلى العودة إلى الوراء أن التصوير عمل فنى بشرى، وإبداع صناعى إنسانى لا يتحدى الإنسان فيه ربه، أويضاهى به خلقه – معاذ الله – أو ليتخذه إلهًا من دون الله، والعياذ بالله. وإنما هو فن يمارسه الإنسان ليعينه على الإتقان فى العمل، ويدربه على الارتقاء بمقاييس الجمال، ويأخذ بيديه إلى الخيال الصناعى الذى يترجم إلى صناعات نافعة مثل أشكال الروبوتات والسيارات والطائرات وأثاث المنازل وديكوراتها التى لا حصر لها ما دام باب الإبداع مفتوحًا، وكل هذا يدخل فى عموم قوله تعالى: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (هود:61)، أى جعلكم عمارها وبانيها.
وترك المصريون مذهب بعض الشافعية ومن وافقهم الذين يرون تحريم التصوير مطلقًا للجماد والنبات والإنسان والحيوان. كما ترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة الذين قالوا بتحريم تصوير ما له روح كالإنسان والحيوان دون النبات والجماد، وتركوا أيضًا مذهب المالكية وبعض الحنابلة الذين وافقوا الجمهور، واكتفوا من تحريم تصوير ما له روح أن يكون فى شكل تمثال وليس مسطحًا. وكان ترك المصريين لكل هذه الأقوال من باب فقههم الفطرى المستقر، أن كثرة القائلين بالمذهب لا يعنى استحقاقه صفة العصمة، فمهما كثر عدد القائلين بالرأى فلن يخرج عن كونه صوابًا يحتمل الخطأ، أو خطأ يحتمل الصواب. فليس قول الجمهور فى المسألة أولى بالعمل والاتباع من قول غيرهم إلا بحسب طمأنينة قلب المتلقى وقناعته. وقد اقنع المصريون بقول بعض أهل العلم الذين لايشق لهم غبار فى الفقه، والذين قالوا بمشروعية التصوير فى الجملة، ويحترم المصريون الأقوال الأخرى فى المسألة لأصحابها. وللحديث بقية فى بيان اقتناء الصور.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عادل حزين
ولا تناقض ولا أى حاجة