عشرون عاما تقريبا مرت منذ صدرت أولى أعمال د.أحمد خالد توفيق الروائية . صدرت أولى تلك الروايات صغيرة الحجم جديدة الأسلوب لتمثل بالنسبة لى ولكثير من أبناء جيلى نوعا من الصدمة المبهرة فى واقع روائى كان النموذج السائد فيه هو نموذج البطل الوسيم الذى لا يهزم أبدا ولا يخطىء قط، الرائع على طول الخط، المتكامل لدرجة مذهلة (دائما مذهلة.. سرعته، جاذبيته، قوته، دائما مذهلة) لكن ماذا لو قررت ألا أذهل؟! ماذا لو قررت أنه من غير المنطقى وجود هذا الكم من الكمال فى البشر؟! ماذا لو قررت أن أقرر؟!هنا لن يكون للرواية معنى ولا داعى إذا لمتابعة رجل المستحيل أو ملف المستقبل فالقرار تم اتخاذه مسبقا والرأى تم سقاؤه لعقلك من خلال السطور وبين أحرف الكلمات.أدهم صبرى دوما مذهل ونور الدين محمود مثالى ومنى توفيق رائعة وفاتنة وقدرى بدين للغاية لكنه أمهر الخلق فى مهنته وطيبة قلبه مثالية أيضا وهكذا.. من أنت لتقرر أصلا، من أنت لتكون لك عقلية نقدية تكون بها رأيا وتقيِّم بها عملا لذلك نجح د.أحمد خالد توفيق فى هز عرش من سبقوه فى قلوب هذا الجيل ليس فقط على المستوى الأدبى ولكن ثمة شيئا آخر كان المرء به يسعد وله قلبه يطرب.. إنه القرار.
لقد صار القرار أخيرا فى أيدينا، د.أحمد ببساطة تركنا نختار، أعطانا مساحة لنقرر هل ستعجبنا القصة أم لا، هل سنتعامل مع البطل على أنه بشر نكره عاداته السيئة ونغضب لأخطائه المتكررة أم لن يسعنا إلا أن نحبه ونتعلق ببطولاته المبهرة، هل سنشفق على كهولته المتهالكة ونتعاطف مع أمراضه المزمنة وضعفه الإنسانى أم سننبهر قصرا بكماله المذهل ونعجب جبرا بمثاليته اللامعة
وهل سيكون هناك احتمال طبيعى للفشل كما هو حال الدنيا أم لابد من الانتصار الدائم والنجاح المستمر الذى لا يحويه إلا الخيال، كان هذا فى تقديرى منبع النجاح ومربط الفرس، الأديب الناجح لا يتظاهر بالنجاح والأعمال المثالية لا تدعى المثالية لا تقرر نيابة عنك، بل تنساب إلى عقلك دون أن تشعر.دون فوقية أبوية أو تعالٍ نخبوى.
الأديب والكاتب والمفكر ليسوا آلهة وكلامهم ليس مقدسا لأصدقه دائما وبشكل مباشر كما أصدق كلام الله. القرآن يقرر أن سيدنا إبراهيم قد وفَّى وأنه قد ابتُلى بكلمات فأتمهن وأنا أصدق ذلك
أصدقه لأن ربى الذى أؤمن بربوبيته هو من قال عنه ذلك فسمعا وطاعة وتصديقا وإقرارا وسلاما على إبراهيم، لكن الكاتب أو المفكر أو العالم المجتهد والواعظ ليسوا كذلك ولست مضطرا لقول آمين على كل رأى أو فكرة أو اجتهاد يتفضلون به وليس على أن أفترض المثالية الدائمة والكمال المطلق فى أطروحاتهم. من هذا المنطلق نستطيع بشكل كبير أن نفهم جزءا مهما من أزمة الخطاب الإصلاحى المعاصر سواءً كان دينيا أو ثقافيا توعويا أوأخلاقيا وليس فقط حصره فى الطرح الأدبى أو الروائى الذى ضربت به المثال السابق.أزمة تتمثل فى الإصرار على عزل الخطاب الإصلاحى عن فهم حقيقة الجيل المتلقى وكيفية التعامل معه، جيل تعود التكنولوجيا منذ نعومة أظفاره ورأى كل شىء بضغطة زر أو مس شاشة وشهد اندلاع ثورات وسقوط حكام وخلع طغاة؛ هو جيل لم يعد ينبهر بسهولة، ولم يعد هينا أن تقنعه بشىء ومن يظن أنه لم يزل قادرا على التعامل معه بفوقية أو إملاء أو فرض رأى فهو واهم ولن يلبث إلا وترتطم رأسه بصخرة الواقع بعد أن يبح صوته ويكل قلمه دون تأثير يذكر وهو الذى لم يتأمل اهتزاز عروش الوعاظ التقليديين والمفكرين النمطيين ولم يتعلم الدرس، من أراد نشر فكرة الآن أو إثبات وجهة نظر فعليه أن يتعب نفسه عليه أن يبتكر، والأهم أن يحترم عقل المتلقى ولا يملى عليه رأيه، بل يدعه يقرر ويختار، وللحديث بقية أن شاء الله.