فى السبعينيات كانت لى جولات جميلة على المعارض التشكيلية مع الفنان الراحل محمود بقشيش، أقف فيها جواره ساكتًا ويشرح هو ما يراه فى اللوحة التشكيلية. كنا فى ذلك الوقت لا نرى فنًا يمكن أن يقوم بذاته، فالفنون كلها تنحو إلى أن تكون صورة، ومن ثم فالاقتراب من الفن التشكيلى وفن التصوير والسينما مهم جدًا لكاتب القصة والرواية لا تقل أهميته عن مشاهدة المسرح وقراءة الفلسفة والنقد وعلم النفس والتاريخ وغيرها من العلوم. للأسف مع الوقت والعمر قلت زياراتى للمعارض كما قلت للسينما والمسرح، ليس تشبعًا بها ولا ترفعًا عنها، لكنْ للوقت والسن أحكام.. تلقيت أكثر من دعوة من الفنان محمد طلعت لزيارة أتيليه مصر الكائن بالزمالك، حالت الظروف بينى وبين الذهاب حتى استطعت هذه المرة، شجعنى أن المعرض لأكثر من فنان كبير، ومن ثم ستكون طلتى على مدارس مختلفة ورؤى مختلفة، وكلها ستكون رائعة. ذهبت الاثنين الماضى لأجد فى المعرض الفنان الكبير أحمد شيحة، ومعه الفنان إبراهيم غزالة الذى يرأس أيضًا تحرير مجلة مهمة فى الفن التشكيلى هى «الخيال»، ومعهما المصور الشاب أيمن هلال.. تركتهم وتجولت فى المعرض الذى يجمع بين النحت والرسم.. كان طبيعيًا أن أقف مجذوبًا أمام تمثالى الفنان الراحل العظيم عبدالهادى الوشاحى الذى افتقدناه منذ عدة أشهر، أخذنى تمثال «فى السابعة عشر» وهو لفتاة من البرونز الذى تشى قامته وتكوينه الأنثوى بالسعادة فى تطور الجسد، فيبدو التمثال كأنه سيقفز إليك.. طول قامته إعلان عن الوجود، ورغبات تتفجر فيه، وتقدم الصدر وتكوين الذراعين، وكل نسب أعضاء الجسد ووضعها تعلن عن انفجار الجسد والروح.. الأمر يتكرر بشكل أكثر تجريدية مع تمثال المواجهة، وتقف بعد ذلك مع بعض اسكتشات لتماثيل الوشاحى تدرك منها كم كان ساحرًا وعظيمًا إذ تتحول الاسكتشات إلى برونز أو حجر ينفجر بالحركة والقوة والرشاقة، كأنها بالريشة وليست نحتًا. عند لوحتى الفنان الكبير أحمد شيحة تقف كثيرًا، فاللوحتان خواطر وتأملات عند شاطئ البحر يستخدم فيهما الكاتب كعادته أكثر من مادة لونية، مازجًا بعض الأكاسيد بالأكليرك، وكلها من صناعته هو فوق توالٍ مشدود على الخشب.. ليست هناك ملامح محددة، لكن بقليل من التدقيق ترى مفردات اللوحة من أشكال صغيرة، كلها يمكن أن تراها فى البحر، أو يذكرك بها البحر فوقه وتحت الماء، وكلها يمكن أن يهب بها عليك الهواء بالذكريات.. عناصر كثيرة جدًا ليس مهما لمثلى الذى لا يستطيع تفسير المفردات وتكويناتها بسهولة أن يقارن بينها، فمثلى يرى الحالة العامة، أما النقد التفصيلى فيعرفه نقاد الفن، مثلى لا يهتم إلا بما توقظه اللوحة فى روحى من مشاعر، هنا كثير من الراحة، وهنا تندهش كيف يصنع تداخل كل هذه العناصر تلك الراحة كأنك تحت غيم حنون، من المؤكد الحالة التى عليها الألوان والدقة التى لا تدركها العين المجردة فى تمازج مفردات اللوحة المختلفة.
وقفت أمام لوحتى عصام معروف، كان واضحًا أن اللوحة أكليرك على الكتان لا تكتمل إلا بالإضاءة، بورتريهات أو وجوه بين الحزن والتأمل، نائمة على أسرار رغم الألوان المبهحة التى يزيدها الضوء بهجة، أما فتحى عفيفى فرأيته يضحك كعادته، لم يكن موجودًا، لكن لسنوات أقابله يضحك متفائلًا. فى لوحته «المصنع» صمت وأشياء تحاصر البشر، القديم والجديد، من عصر الخشب إلى عصر التكنولوجيا، يبدو الإنسان يبحث عن طريق، الأشياء تحتل الصورة، والإنسان خيال بينها غريب يبحث عن طريق، ولا بأس فهو ابن الطبقة العاملة الذى أهلكته المصانع، أمام لوحتى الفنان إبراهيم دسوقى كان لابد أن أتذكر والده الفنان والمترجم الكبير الدسوقى فهمى أطال الله فى عمره، هنا الصحراء والرسم بالباستيل والفحم أو العكس إذا أردت، الصحراء ونبات أسود وحيد يعلن عن وجوده بقوة بين المتاهة.. وأمام تمثال الفنان الكبير خالد زكى، وهو من البرونز وقفت مبهورًا، فأمام لوحة الشباب teenager يبهرك الجسد المقيد للفتاة، إذ ترتفع رأسها إلى السماء طالبة التحرر، بل يعلن الجسد عن قوته تحت القيد البرونزى الأزرق الذى يخفى حتى الذراعين، رغم جمال القيد الظاهر، الوجه هو أول ما يجذبك، وهو يشرئب إلى أعلى رغم ما يبدو من إخفاء الجسد ورشاقته التى تكاد تقفز تحت ما يخفيها، ويتكرر الأمر مع تمثال الكتلة الصامتة التى تملأ الفضاء!ٍ
تبتهج بلوحة رضا عبدالرحمن عن نفرتارى المرسومة بالأكليرك والزيت على الكانفاه، هى قصة أخرى حقًا غير الجمال، فالغواية تتألق مفرداتها والوجه والشعر معاصر، هى الأنثى التى تجلس متربعة على عرش العالم تحت قدميها، وتبتهج مع ألوان نازلى مدكور وتكويناتها التجريدية بألوان ومواد مختلفة على الكانفاه أيضًا. وخطوط محمد رضوان التى تصعد بك معها لا يوقفها ولا يوقفك شىء، وتقف متأملًا أمام لوحتى الفنان الكبير مصطفى الرزاز.. جوانب من معركة تذكرك على الفور بالسيرة الهلالية، لكن أيضًا تذكرك بسير أخرى كثيرة، إكليريك على الخشب. القوة فى التكوين والقوة فى اللون تجعل المشهد الأسطورى حقيقى، وكأنك فى قلب المعركة.. الوجوه هى الأكثر حضورًا والسيوف والحركة والغضب حالة تاريخية، لكن هذا لا يمنع من وجود وردة لا تخطئها العين.. هون على نفسك أنت أمام لوحة ولست أمام الحقيقة، لوحة أعمق من الحقيقة لأن الأصل فيها الجمال رغم أنها حرب طاحنة.
لم يكن هذا كل شىء.. جلست بعد جولتى مع الفنانين أحمد شيحة وإبراهيم غزال ومحمد طلعت وأيمن ماهر، أخذنا الحديث عن الفن وأهمية أن يدرك الأدباء التداخل والتمازج بين الفنون، وتحدثنا عن لوحات ومعارض عالمية، ونبهنى إبراهيم غزالة إلى أن ما قد تراه تفسيرًا للوحة قد يكون سببه مساحة اللوحة ذاتها وليس أفكار الكاتب، قلت له كلامك صحيح لكن ماليش دعوة! فاللوحات فى النهاية تعرض للناس العاديين يرون فيها ما يرون.. أما أهمية إدراك تمازج الفنون فهو أمر شديد الأهمية، فاللوحات أكثر إيجازًا فى التعبير مهما كبرت مساحتها، وتعدد الألوان وموادها يعطى قدرة أكبر على الإيجاز، بينما الفنون الأدبية لا تسخدم فيها غير مادة واحدة هى اللغة.. كيف تكون اللغة صورة، هذه مهمة الكاتب الأكبر والأصعب، وإذا كانت الصور تأتى فى الشعر من تكوين الجملة فهى فى الرواية تأتى من رسم الشخصيات وعلاقاتها بالزمان والمكان وليس من شعرية العبارات، وهذه مهمة أصعب. فى النهاية تركتهم لأحضر لقاء عن الناشر والمؤلف بالدار المصرية اللبنانية طالبًا من الله ألا تنسينى القضايا التى ستفجر ما وقر فى روحى من جمال، والحمد لله حصل.. كانت أيضًا ليلة رائعة.