ما أروعها لحظات تلك التى عشتها حينما وطئت قدماى أرض المدينة المنورة مدينة الرسول عليه أفضل الصلاة السلام، فقد بدأت رحلتى إلى الحج هذا العام بزيارة قبر الرسول الكريم، ومن حسن حظى أننى وصلت إلى المدينة وقت أن كان الحجاج قد غادروها وتوجهوا إلى أماكن الشعائر المقدسة، فكتب لى الله الوصول إلى الروضة الشريفة بسهولة ويسر دون عناء، وقمت بالصلاة فى هذا المكان الذى قال عنه الرسول الكريم: «بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة»، وها أنا أشعر بأن الله عز وجل راض عنى حيث تمكنت من الصلاة عدة مرات فى تلك البقعة الطاهرة بين قبر الرسول الكريم وبين المنبر الذى شرفه بالجلوس عليه ليخطب فى المسلمين ويعلمهم أصول دينهم، كما أنه هو منبر الرسول الكريم الذى شهد تألق الدولة الإسلامية حيث تشكلت ملامحها من داخل هذا المسجد الذى يحظى بقدر كبير من الإجلال والإكبار من جانب المسلمين الذين يفدون إليه من شتى أنحاء العالم تبركا ومحبة فى المكان الطاهر الذى يحفظ رفاة أشرف الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام.
لقد استقبلتنى المدينة المنورة وكأنها تفتح ذراعيها لتحتضننى بابتسامة صافية ونقية تعلو وجوه أهلها الطيبين الذين يشعرونك وهم يتعاملون معك بأنك أنت صاحب المكان وهم الضيوف، نعم لقد شعرت بإحساس غريب غمرنى وأنا أعيش تلك اللحظات النقية فى مدينة الرسول قبل أن أتوجه لإتمام شعائر الحج، فعلى الرغم من أنها ليست المرة الأولى التى أزور فيها المدينة المنورة فإننى شعرت هذا العام بإحساس غريب يتملكنى ويجعلنى على يقين من أن الله قد كتب لى كل الخير بالصلاة بسهولة ويسر فى الروضة الشريفة التى مازلت أشم رائحتها العطرة أينما ذهبت.
ومن المدينة توجهت لإتمام مراحل الحج كما فرضها الخالق عز وجل، وما أن وقفت بالأمس على جبل عرفات حتى وجدتنى وقد انتقلت من حال إلى حال فقد ذابت كل همومى وفاضت دموعى وأنا أرفع أكف الضراعة إلى الله عز وجل وأنا أقف على قمة الجبل الذى أوضح الرسول قيمته بقوله «الحج عرفة».. لم أتمالك نفسى وأنا أشعر بتلك القشعريرة التى سرت بين ضلوعى لتغمر جسدى بالكامل فهو شعور لا يمكن نسيانه بأى حال من الأحوال. بالأمس وحينما كنت أقف على جبل عرفات تذكرت كل ما مر بى من محن وأحزان وأفراح وأزمات لا حصر لها وتذكرت كيف أن الله عز وجل كان يقف إلى جوارى فى كل ما مررت به من محن، ولم يغب عن مخيلتى صورة والدتى رحمة الله عليها وهى تدعو لى دائما بالصحة والستر فى أحلك الأيام التى عشتها وفى أصعب الظروف التى مررت بها منذ عدة سنوات، إنها حالة خاصة من المصارحة مع النفس مرت فى مخيلتى وكأنها شريط سينما ملىء بالمشاهد المتناقضة والمواقف المتباينة التى لا يربط بينها سوى الحاجة الأكيدة إلى تنقية الوجدان والمشاعر.
لقد شعرت وأنا أقف على جبل عرفات بأننى أتخلص من الذنوب ومن الخطايا لأتحول إلى شخص آخر لا يحمل لأحد أى حقد أو كره أو شماتة، حتى هؤلاء الذين أساءوا لى فى يوم من الأيام لم أعد أحمل لهم أى كره لأن من عرف حلاوة التطهر وحلاوة التقرب إلى الله يعز عليه أن يلوث قلبه بالضغائن. ربما يتصور البعض أن الحج مجرد شعائر دينية تتم وفق مراحل مرتبة واحدة تلو الأخرى تبدأ بالخروج من البيت بنية الحج ثم الإحرام والطواف حول الكعبة والسعى بين الصفا والمروة والتوجه إلى منى والوقوف على جبل عرفات والتوجه إلى المزدلفة ثم الذهاب إلى منى ورمى الجمرات «جمرة العقبة» إلى آخر تلك المراحل.. ولكن والحق يقال فإن كل تلك المراحل التى يمر بها الحاج وإن كانت تمثل بالفعل «الحج الصحيح» إلا أنها قد تذهب هباء إن لم يكن هناك وازع قوى بداخله يدفعه إلى ترك أمور الدنيا والتفرغ بكل جوارحه للتقرب إلى الله عز وجل وفتح صفحة جديدة مع الخالق ربما على إثرها يعود إلى حيث أتى وهو كما ولدته أمه طالما اجتنبت الكبائر ومبطلات الحج.
وبكل صدق أننى حينما كنت أقف على جبل عرفات أمس كان قلبى يخفق بحالة إيمانية لم أرها من قبل على الرغم من أنها ليست المرة الأولى التى أحج فيها إلى بيت الله الحرام، لقد عاهدت الله عز وجل ألا أغضبه فى أى خطوة أخطوها وألا أسىء إلى نفسى بعد اليوم ولن أسىء إلى أحد مهما كانت الدوافع والمبررات.
وهنا تكمن القيمة الحقيقية التى يحملها لنا عيد الأضحى المبارك فالعيد مناسبة لنتقرب بعضنا البعض وأن نعلى من شأن قيمة التكافل الاجتماعى، وهو من أهم وأبرز مبادئ ديننا الحنيف الذى يحضنا على البر والتقوى تجسيدا لقوله تعالى فى سورة المائدة: «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»، والحقيقة أن التكافل فى الإسلام، يمثل فكرة متقدمة، تتجاوز مجرد التعاون بين الناس، أو تقديم أوجه المساعدة وقت الضعف والحاجة.. كما يستمد التكافل الاجتماعى فى الإسلام مبناه من مبدأ مقرر فى الشريعة، وهو مبدأ الولاية المتبادلة بين المؤمنين فى المجتمع، بقول الله تعالى فى سورة التوبة: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
فليتنا نستثمر هذه الأيام المباركة وما بها من روحانيات تسيطر على العقول وتملأ القلوب العامرة بذكر الله، ونجعلها نقطة انطلاق حقيقية نحو عالم نظيف يحنو فيه بعضنا على البعض الآخر ونمد فيه جسور المحبة فيما بيننا بشرط أن تكون محبة حقيقية وخالصة لوجه الله منزهة عن أى غرض دنيوى أو مصلحة شخصية.
إن الحج رحلة روحانية انتشلتنى من حالة الضيق التى نحياها فى ظل عالم يموج بالصراعات لتتبدل حياتى من حال إلى حال بعد أن شكلت بداخلى عالما ملىء بالنقاء والصفاء الذى نحن أحوج ما نكون إليه الآن، بل إنها أحاطتنى أيضا بحالة من الرضا التام، فالرضا مفتاح السعادة الحقيقية.
إنها رحلة تستحق أن نقوم بها ونتحمل من أجلها أى مشقة، لأنها طريقنا الأكيد نحو جوائز السماء التى لا أول لها ولا آخر.
وكل عام والأمة العربية والإسلامية بخير وكل عام ومصرنا الحبيبة بخير واستقرار وأكثر تألقا فى شتى مجالات الحياة.