الشفعة فى اللغة اسم مصدر بمعنى التملك. تقول: أخذت الدار بالشفعة، أى تملكتها بحق الشفعة وليس بعقد البيع أو بعقد الهبة المعروفين، ويجوز إطلاق اسم الشفعة على الشىء المملوك بها، فتقول: هذه دار شفعة أى تملكتها بحق الشفعة، والشفعة مأخوذة من الشفع الذى هو ضد الوتر كما فى قوله تعالى: «والشفع والوتر» (الفجر:3)، لما فى الشفع من ضم عدد إلى عدد أو شىء إلى شىء، وأما الشفعة فى اصطلاح جمهور الفقهاء فهى «حق تملك قهرى يثبت للشريك القديم على الشريك الحادث فيما ملك بعوض» أو هى «استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة إليه عنه من يد من انتقلت إليه».
والحكمة من ثبوت حق الشفعة هى رفع الضرر المحتمل عن الشريك القديم فى المشاع، وعن الجار الجنب فى الجوار، لأن الغالب فى شركة المشاع أن يبغى بعض الشركاء على بعض، لعموم قوله تعالى: «وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم» (ص:24)، كما أن الغالب فى الجوار أن يحدث من صغائر الأمور فيما بينهم ما يبغى بعضهم على بعض، ولذلك تأكدت توصية السماء لهم فيما بينهم كما فى قوله تعالى: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب» (النساء:36)، وأخرج الشيخان عن ابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، وفى رواية أخرى لمسلم: «حتى ظننت أنه ليورثنه».
يقول ابن القيم (ت 751هـ) فى إعلام الموقعين»: «من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة، ولا يليق بها غير ذلك، فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به» ثم بين عدالة ومنطقية الشفعة فقال: «فإذا أراد الشريك بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبى – أى بالشفعة – وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان، فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبى ويزول عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن. وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد، ومن هنا يعلم أن التحيل لإسقاط الشفعة مناقض لهذا المعنى الذى قصده الشارع ومضاد له».
ومع توجه جمهور الفقهاء إلى هذا الملمح فى المصلحة التى تتوخاها الشفعة للشريك القديم أو للجار السابق برفع الضرر عنهما دون المساس بالحق المالى للبائع، إلا أن بعض الفقهاء نظر إلى ملمح آخر، وهو تعارض الشفعة مع مبدأ سلطان إرادة البائع لملكه، ومبدأ استحقاق المشترى لما اشتراه لعموم قوله تعالى: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم» (النساء:29). فذهب هؤلاء البعض إلى إنكار حق الشفعة، لأنها تضر بأرباب الأملاك، فأجازوا بيع حصة المشاع للأجنبى دون أن يكون لشريك أو لجار أولوية، ومن هؤلاء عثمان بن مسلم البتى أبو عمر البصرى (ت 143هـ) وهو من كبار التابعين الذين رأوا أنس بن مالك الصحابى، وكان عثمان يبيع البتوت (نوع من الأكسية الغليظة) فقيل البتى. ومن هؤلاء أيضًا الأصم محمد بن يعقوب أبوالعباس النيسابورى (ت 346هـ). ويذكر ابن حزم (ت 456هـ) فى كتابه «المحلى» دليل المنكرين لحق الشفعة بأن خبر الشفعة مخالف للأصول، وأن من ملك شيئًا بالشراء فلا يجوز لغيره أخذه، ثم قال ابن حزم: «وهذا خلاف لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وقريب من هذا المعنى ورد فى «المغنى» لابن قدامة (ت620هـ).
ومع ذلك فقد ذهب كثير من الفقهاء إلى الأخذ بقول عثمان البتى الذى أنكر حق الشفعة لمخالفتها للقياس فى العقود، إلا أنهم قصروا هذا الإنكار على ما لا ينقسم بدون ضرر كالبئر والحمام الصغير والطريق، لأن إثبات الشفعة فيما لا ينقسم يضر بالبائع الذى لا يملك القسمة لنفسه ولا يملك التخلص من الشفعة، وإلى هذا ذهب الإمام مالك فى إحدى الروايتين عنه، وهو الأصح عند الشافعية وظاهر المذهب عند الحنابلة، واستدلوا بما أخرجه ابن الجوزى (ت 597هـ) فى «التحقيق فى أحاديث الخلاف» قال: «روى أصحابنا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا شفعة فى فناء ولا طريق ولا منقبة» قال ابن الجوزى: والمنقبة الطريق بين القوم لا يمكن قسمته، وإنما وجبت الشفعة لأجل الضرر الذى يلحق الشريك بإحداث المرافق وهذا معدوم فيما لا يقسم». قلت: ويتخرج على قول هؤلاء الفقهاء عدم الشفعة فى بيع الأسهم الصادرة عن الشركات المساهمة فى هذا العصر.
ونظر بعض ثالث من الفقهاء إلى ملمح آخر وهو عدم إمكانية بيع الحصة المملوكة على المشاع لعدم تعيينها، فعلى شريك المشاع أن يسعى إلى إفراز حصته بالقسمة ليتمكن من بيعها، وممن قال بذلك عبدالملك بن يعلى (ت100هـ) وهو تابعى وكان قاضيًا للبصرة.
ونظر بعض رابع من الفقهاء إلى ملمح آخر وهو عند الأخذ بالشفعة أن يكون ذلك عند بيع الشريك لحصته من أجنبى، أما أن يتبرع الشريك بحصته لأجنبى أو يوصى له بها أو تؤؤل إليه بالإرث فلا شفعة، لأن أكثر الأحاديث الواردة فى الشفعة جاءت فى مناسبة البيع، ولأن الضرر بالشريك لا يظهر إلا فى صورة البيع القائم على تعظيم الثمن الذى يتحقق من كل أحد، بخلاف التبرع القائم على تعظيم العلاقة الأدبية الذى تراعى فيه الصفة الشخصية، والإرث القائم على تعظيم الصفة الدينية. وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، خلافًا لرواية عن مالك وما حكى عن ابن أبى ليلى الذين قالوا بثبوت حق الشفعة حتى فى التبرع، ويأخذه الشفيع بقيمته، لأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر الشركة وهو يتحقق فى التبرع كما يتحقق فى البيع، أما الميراث فهو حق ثبت بالدين وليس بإرادة الشريك فلا يسقط بالشفعة.
وإذا قلنا بحق الشفعة إذا تصرف المالك فى حصته أو نصيبه بالبيع كما هو مذهب جمهور الفقهاء، فهل يقتصر هذا الحق على ملكية المشاع، أم يمتد ليشمل الجار الملاصق؟ مذهبان للفقهاء فى الجملة،
المذهب الأول: يرى أن حق الشفعة لا يثبت إلا بين الشركاء فى الملكية على المشاع، أما بعد القسمة فلا شفعة، ولذلك لم تكن هناك شفعة بحق الجوار، وهو مذهب جمهور الفقهاء قال به المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، وروى عن عمر وعثمان وعمر بن عبدالعزيز وسعيد بن المسيب والأوزاعى وأبى ثور وغيرهم، وحجتهم: (1) ما أخرجه البخارى عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشفعة – وفى رواية قضى بالشفعة – فى كل مال لم يقسم – وفى رواية: فى كل ما لم يقسم – فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. وأخرج مسلم عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فى كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به، وفى رواية أخرى لمسلم عن جابر، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الشفعة فى كل شرك فى أرض أو ربع أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع، فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه». (2) أن الشفعة شرعت على خلاف القياس لرفع الضرر عن الشريك المخالط، فلا يتوسع فيها لتشمل الجار الذى لا يضره سكنى الأجنبى بجواره لانفصال كل جار عن جاره بخلاف الشركاء على المشاع، ثم لو ثبتت الشفعة بالجوار لوقع الضرر على المشترى الذى يحتاج إلى دار يسكنها هو وعياله، فإذا سلط الجار على انتزاع داره منه بالشفعة لم يجد دارًا يسكنها، وليس مراعاة رفع الضرر المحتمل عن الجار بالشفعة أولى بالرعاية من مراعاة رفع الضرر المحتمل عن المشترى بالعقد.
المذهب الثانى: يرى ثبوت حق الشفعة بالجوار الملاصق كثبوته فى شركةالمشاع، وهو مذهب الحنفية وقول ابن شبرمة والثورى وابن أبى ليلى، وحجتهم: (1) ما أخرجه الترمذى بسند صحيح عن جابر بن عبدالله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الجار أحق بالشفعة ينتظر به وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحد». (2) ما أخرجه البخارى عن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبى وقاص، فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبى، إذ جاء أبو رافع مولى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا سعد ابتع منى بيتى فى دارك، فقال سعد: والله ما ابتاعهما. فقال المسور: والله لتبتاعنهما. فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة. فقال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الجار أحق بسقبه» ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطى بها خمسمائة دينار، فأعطاها إياه. قلت: والسقب يعنى القرب والملاصقة. (3) ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى بسند صححه الألبانى وقال ابن حجر: له علة. عن سمرة بن جندب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «جار الدار أحق بالدار» وفى رواية: «جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض». (4) قياس الشفعة بالجوار على الشفعة بالشركة، لأنه إذا كان الحكم بالشفعة ثبت فى الشركة لإفضائها إلى ضرر المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها، ولما كان الجار القديم يتأذى بالجار الحادث، لتفاوت الناس فى المجاورة بحسن الخلق أو سوئه، فقد ثبت للجار القديم حق الملك بالشفعة دفعًا لهذا الضرر.
وقد اختار المصريون مذهب الحنفية ومن وافقهم الذين قالوا بثبوت حق الشفعة للجار الملاصق دفعًا للضرر عنه، ولأن البائع لا يقصد شخص من يخلفه فى داره غالبًا، وإنما يقصد حصوله على ثمن المبيع، ولا فرق عنده بين أن يكون هذا الثمن من جاره أو من أجنبى، وهذا ما نص عليه القانون المدنى المصرى رقم 131 لسنة 1948م والذى ينص فى (مادته 935) على أن: «الشفعة رخصة تجيز فى بيع العقار الحلول محل المشترى فى الأحوال وبالشروط المنصوص عليها فى المواد التالية». وتنص (المادة936) على أنه «يثبت الحق فى الشفعة..» للجار المالك فى الأحوال الآتية: 1 - إذا كانت العقارات من المبانى من الأراضى المعدة للبناء سواء أكانت فى المدن أم فى القرى. 2 - إذا كانت للأرض المبيعة حق ارتفاق على أرض الجار، أو كان حق الارتفاق لأرض الجار على الأرض المبيعة. 3 - إذا كانت أرض الجار ملاصقة للأرض المبيعة من جهتين وتساوى من القيمة نصف ثمن الأرض المبيعة على الأرض على الأقل».
وترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء الذى يرى عدم مشروعية الشفعة بالجوار الملاصق ليس استخفافًا بقولهم والعياذ بالله، وإنما لقناعة المصريين بأن كثرة القائلين بالقول لا يعنى عصمته، فكل اجتهاد بشرى يخضع لاحتمالية الصواب والخطأ، ولذلك جعل الرسول صلى الله عليه وسلم حق الاختيار من بين الأقوال الفقهية مكفولًا لكل أحد بحسب رؤيته للمصلحة التى تختلف باختلاف الزمان والمكان، فقال فيما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد: «استفت قلبك واستفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، فاختار المصريون ما يناسبهم فى عصرهم من إثبات حق الشفعة بالجوار، كما هو مذهب الحنفية، دون إلزام أبنائهم أو أحفادهم أو حتى جيرانهم فى الدول الأخرى بهذا الاختيار، فكل أمة بصيرة بنفسها كما قال سبحانه: «بل الإنسان على نفسه بصيرة» (القيامة:14).