هناك قراءات لا ينساها أبناء جيلى وربما الأجيال التالية، أتذكر الآن بعضها على وجه السرعة، لماذا أفعل ذلك؟ دعوة للانتصار على القلق هذا الذى رغم ذلك لم أستطع التخلص منه، لكنها دواء قد يصلح فى بعض الأحيان لمن يريد الدواء أو من أعيته الحيل لاستيعاب ما يجرى فى البلاد.
مبكرا فى حياتى وأنا أدرس الفلسفة فى الجامعة قرأت عن هذا الفيلسوف اليونانى، هو من الفلاسفة الصغار قبل أفلاطون، كانوا سبعة فى بعض الدراسات، أذكر منهم ديموقريطس وفيثاغورث وهرقليطس وزينون هذا، طبعا لا أنسى فيثاغورث بسبب نظريته الهندسية التى درسناها صغارا فى المرحلة الإعدادية، فقط عرفت أنه زار مصر واستقى معارفه من بناء الأهرام، المدرسة الفيثاغورثية ملمح رئيسى فى حضارة الإسكندرية، ليس هذا ما يهمنى، فكل الدنيا زارت مصر وكلها استفادت من مصر أم الدنيا، حتى الذى لم يأت إليها يوجد من يقول إننا سبقناه فى علمه أو أدبه، تماما كالذين يرجعون كل شىء إلى علماء العصر الإسلامى أو إلى القرآن الكريم، لا يدرك هؤلاء أن ذلك يبعث على الرضا بالحال وعدم الحركة فى المكان والزمان، وهذا ما يهمنى من زينون هذا، هو من إيليا على الشاطئ الإيطالى لذلك سمى بالإيلى، هو ليس كهرقليطس مثلا الذى يرى التغير أساس الحياة وعبارته الشهيرة «إنك لا تنزل النهر الواحد مرتين» صارت شعار الشيوعيين دائما أكثر من غيرهم، لا يستطيع الإسلاميون تبنى هذه العبارة لأنهم يأخذوننا دائما إلى نفس النهر ونفس المياه بل مياه مر عليها ألف وخمسمائة سنة، وطبعا زينون ليس فيثاغورث الذى رأى العالم عددا ونغما، رجل الحساب والهندسة الذى رأى التناسق والسيمترية أساس الموجودات، زينون كان فى رأيى أديبا أكثر منه فيلسوفا، وربما كان زهقان من حياته رغم أنه لم يعرف عنه أى موقف سياسى، ولم تعاده الدولة التى كانت لم تتشكل بعد فى أثينا أو غيرها من مدن اليونان. قال زينون بعدم وجود الزمان، وعدم وجود المكان، أما الحركة وهو ما أثارنى كثيرا فهو أيضا يقول بعدم وجودها، فحين تصوب السهم إلى هدف يحتاج حتى يبلغ الهدف أن يصل إلى نصف المسافة ويحتاج إلى أن يبلغ نصف المسافة إلى أن يقطع نصف المسافة وهكذا، ولأن لكل مسافة نصفا مهما صغرت فالسهم لا يتحرك من مكانه. قال زينون ذلك فى وقت كانت فيه الحروب بالأسهم والرماح والقتلى بالمئات فى كل معركة. انتهى الدرس زمان ونحن نضحك لكنى لم أكن أضحك، كنت أرى للمسألة وجها أدبيا كبيرا هو الذى فتننى، ووجها للراحة كلما أدلهمت الأمور، أعود إليه الآن راكنا للراحة لأنى لم أعد أفهم ولا قادرا على الفهم، التخلص من الثورات والثوار يكون بكل هذه الخطايا وليس ارتكاب الخطايا يكون بكل هذا الفخر وسط فراغ من العدم!
وجدت أثرا لزينون هذا فى كثير من الأعمال الأدبية العظيمة، وبشكل عام فالأدباء الكبار تجدهم معنيين بالأمل الضائع أو بمعنى أدق بالأمل الذى لا يتحقق، والثبات حالة أدبية أكثر منها علمية أو فلسفية، ومن أجمل قصائد كفافيس قصيدة «فى انتظار البرابرة» الذين بعد أن احتشدت المدينة لاستقبالهم فى فرح لم يأتوا- يا خسارة، لقد كانوا حلا من الحلول- هكذا قال كفافيس بالضبط راثيا حال أهل المدينة بما فيهم الحاكم ورجاله أيضا، لماذا انتظر الحاكم البرابرة الذين لابد سيحل معهم الخراب؟ لم يقل كفافيس، تركنا نفكر، وأبسط الأفكار أن أهل المدينة ليسوا فى حاجة إليهم فهم معهم، وإن لم يدركوا! من يعرف معنى آخر يقل لى، يريحنى لأنى لم أحب شاعرا كما أحببته، ومن أجمل الروايات رواية «صحراء التتار» لدينو بوتزاتى الإيطالى التى تسلم فيها البطل الشاب أمر قيادة القلعة خارج المدينة من القائد السابق الذى بلغ الستين وأحيل إلى المعاش، تبادلا التحية وتمنى له القائد القديم النجاح، القلعة خارج المدينة لكى تستقبل التتار إذا جاءوا وهاجموها، يبقى البطل الشاب حتى يبلغ الستين ولا يأتى التتار، ترك قيادة القلعة لشاب جديد متمنيا له النجاح وكان واضحا أن البطل الجديد سيكون مثل السابقين يضيع عمره فى انتظار ما لا ياتى! وطبعا مسرحية «فى انتظار جودو» لصامويل بيكيت أشهر من الكلام عنها، صارت مثلا على الانتظار بلا طائل.
لست هنا فى معرض استعراض الحديث الفلسفى أو الأدبى لكن على المستوى الشخصى هذه الكتب تريح الإنسان وتجعله يمضى فى حياته فى صمت، بالمناسبة كانت مسرحيات العبث ومنها «فى انتظار جودو» ممنوعة فى الاتحاد السوفييتى زمان بدعوى أنها تدعو إلى اليأس ولا تدعو إلى الثورة، وكان قمع النظام للناس فوق الاحتمال، وهكذا رغم أن هذا النوع من الأدب قد يريح النظام إلا أنه كان غبيا فلم يسمح به، حتى انتفض عليه الناس الذين لم يصدقوا أبدا عدم وجود الحركة وعدم جدواها، يريحنى زينون الإيلى حين تسود الأمور حولى، ألوذ به قائلا لنفسى: لا مكان ولا زمان ولا حركة، أراحنى سنوات طويلة، أعطانى الفرصة أن أكتب رواياتى، لكن هل حقا استطعت أن أبتعد عما حولى؟ لم يحدث.كانت الكتابة أبسط ما فعلت، فقط زينون يجعلها كل ما أفعل، والآن أجد صعوبة أن ألوذ به، لأن ثورة عظيمة رأيتها فى يناير 2011، وكلما اشتد الهجوم عليها ظلت فى الصورة، وليس هناك من طريقة لإخفائها إلا بتقديم ما أرادات، بين ذلك وبين إخفائها دم سال وسيسيل لكننى فى النهاية وقد عاد هؤلاء الأدباء للمثول أمامى ومداعبة روحى لراحتها أتذكر بقوة قصة «قبو البصل» لجونترجراس العظيم، وفيها افتتح شخص ما مطعما فى قبو لا يقدم إلا البصل يأتى إليه من يشاء يكسره أمام عينيه ليبكى، امتلأ المطعم وفاق زبائنه كل المطاعم، بل صارت المدينة كلها تقف فى طابور طويل فى انتظار البصل، صور قاتمة حقا لكنها أفضل من البرابرة، وأفضل من السكون، المدهش أنه فى الصين منذ أسابيع تم افتتاح مطعم على هذا الشكل، بجد والله، ترى من يلحقنا فى مصر بهذا المطعم؟ قد يكون حلا من الحلول!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة