فى واحدة من أجمل تلاواته القرآنية انطلق الشيخ محمد صديق المنشاوى رحمه الله يصدح بصوته العذب مرتلا آيات لو أُنزلت على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. والحقيقة أنه فى تلك الليلة تحديدا كان الشيخ متفننا بشكل يفوق الوصف ويبدو أن فتح الله تعالى كان على أشده أثناء هذه التلاوة المؤثرة لآيات من أواخر سورة "المؤمنون" تتحدث عن الآخرة والمآل والمصير ما بين جنة أو نار.
هل كان تأثر الشيخ بالآيات سبب ذلك الفتح فى القراءة أم كان رزقا ساقه الله للمستمعين ليتدبروا آياته ويتأملوا معانيها عبر هذا الصوت الشجى الذى يكاد يفسر المعانى من فرط تأثره بها وروعة تجاوبه معها، ربما كان ذلك هو سبب الفتح وربما غيره، ليست هذه هى القضية فى النهاية كانت التلاوة رائعة، مؤثرة، مبكية، مذكرة.. "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ... كَلاَّ" عند كلمة "كلا" وقف المنشاوى رحمه الله بتمكن و(حرفنة) منقطعة النظير
وقفة تجعلك تتأمل تلك الكلمة الحاسمة التى تقطع أى أمل فى العودة بعد انتهاء الأجل، وقفة تمنحك الفرصة للتدبر والذكرى ومراجعة الحال والتفكر فى سبل الإصلاح قبل سماع تلك الكلمة هنالك فى الدار الأخرى، وقفة تستلزم الكثير من النظر وتفتح باب القلب للكثير من الشجن والوجل.
المنطق والفهم البسيط يقول ما سبق لكن الواقع كان مختلفا لقد تفجرت آهات المستمعين وتهليلاتهم عند تلك الوقفة المتمكنة وبعد هذه الكلمة الحاسمة "الله الله الله يا عم الشيخ، إيه الحلاوة دى؟! إيه يا مولانا الجمال ده؟! إيه العظمة دى؟ يا سلام"، شلال من تلك العبارات المستحسنة انهمر عبر المذياع أثناء تلك الوقفة ليقطع سيل الأفكار التى دارت بخلدى أثناء استماعى لتلك الآيات المبكية "كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ". تستمر التلاوة وتستمر معها الصيحات المتلذذة والتهليلات المشجعة ويلتفت المستمعون لجمال الصوت وروعته وتلذذهم بالأداء وينشغلون بذلك عن المعنى الخاشع الذى يفترض أن تسيل مآقيهم من خشيته وتختلج قلوبهم لجلال مشهده الذى ينقلهم القرآن إليه كأنه رأى العين .. التلذذ..
الطرب..الإعجاب..مشاعر طبيعية تجاه هذا الصوت العبقرى وذلك الأداء المذهل، لكن هل هذا هو المراد؟هل من الطبيعى تجاه آيات تحمل ترهيبا وتدعو للتفكر مراجعة النفس أن تستقبل بمظاهرة إعجاب؟وهل أُنزل القرآن لأجل ذلك؟وهل تلاوة القرآن هدفها الاستمتاع والإطراب وهز الرؤوس؟.
أعتقد أن الإجابة معروفة، وأعتقد أن هذا الموقف وأشباهه يلخصون تلك الآفة الكبرى التى نعانى منها فى مجتمعنا.. آفة الانفصال بين الحقيقة والمظهر، بين المراد والواقع، بين المعنى والشكل
وبين العمق والقشرة.. آفة إماتة حقائق الأشياء وجوهرها لإحياء غلافها الخارجى والانشغال بـ"البروباجندا" المحيطة بها، تلك الآفة التى جعلت المستمعين يوما فى أحد المآتم والقارئ يرتل قول الله حكاية عن فرعون "قال أنا ربكم الأعلى" فإذا بهم يتصايحون قائلين: سبحانه!! سبحان من؟ قطعا لا يقصدون فرعون، هم فقط سمعوا كلمة "ربكم الأعلى" وعليهم أن يردوا وأن يظهروا تفاعلهم مع القراءة وأن يتعالى الضجيج الذى يزيد الحواجز بينهم وبين ما أنزل القرآن لأجله، الفهم، والعمل بهذا الفهم.
لا يُستغرب إذاً أن تتهلل الأسارير وتعلو صيحات الإعجاب فى مقابلة آيات تتحدث عن الموت والبرزخ والقيامة .إنها عزلة المعانى وإماتة الحقائق وتفريغها من مضمونها، تفريغ القرآن بالانصراف لجماليات الصوت والأداء، وتفريغ الخطب والوعظ بالسجع المتكلف والبلاغيات المتقعرة، وتفريغ الفكر بتعقيد الأسلوب ونخبوية الطرح ، وتفريغ السياسة بحمى التهليل الدائم لكل شيء ولأى شىء تفريغ كل شىء بالإغراق فى المظاهر الصاخبة والانصراف عن محتواه وحقيقته وليعلو فى النهاية صياح واحد يطغى على كل صوت وفهم ومعنى، صياح فحواه: الله الله يا عم الشيخ.