«أفكارٌ ضد الرصاص».. هذا عنوان واحدٍ من كُتُب محمود عوض.. أحد أنبل الكُتاب المصريين وأكثرهم صدقاً وإنسانيةً وموسوعية وموضوعية.. كُنتُ سعيد الحظ أننى التقيتُ بهذا الراهب فى صومعته بجوار كوبرى الجامعة.. والفضل بعد الله لعمر أفندى.. كنتُ قد لاحظتُ توجّه لجنة التقييم لتلبية تعليمات القيادة السياسية بتخفيض قيمة الشركة لأدنى حدٍ ممكن حتى تصبح فى متناول المشترى الوحيد.. وبدأتُ أُفكّر فى الاستقالة من اللجنة لكى لا أشارك فى هذه المهزلة.. وبينما أنا مُترددٌ قرأتُ فى 4/1/2006 مقالاً لمحمود عوض فى جريدة الدستور (نقلاً عن الحياة اللندنية) بعنوان (ماذا سنقول لأبنائنا عندما يسألوننا أين كنتم عندما بيعت مصر؟).. فأنهيتُ ترددى وعزمتُ على البقاء فى اللجنة حتى إذا اكتملت المهزلة كنتُ شاهداً عليها من أهلها أياً كان الثمن.. عندما اتصلتُ به عقب تقديمى البلاغ بعد مقالته بشهرين.. كنتُ ارتجف وأنا أتصل للمرة الأولى بكاتبى المُفضّل وأقول له لقد كنتَ سبباً مباشراً فيما فعلتُ.. فإذا بهذا العملاق يُهلل فرحاً كالأطفال ويقول (يعنى ما نكتبه لا يضيع هباءً).
أُفسح اليوم هذه المساحة لبعضٍ من أقوال هذا النبيل فى مقدمته لكتابه الذى تناول فيه معارك قاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبى وعلى عبد الرازق وطه حسين:
(فى الصفحات التالية سوف تجد أربع جرائم قتل.. إنه قتلٌ مع سَبْق الإصرار والترصد.. إنه ليس تفكيراً فى قتل، ليس شروعاً، ليس محاولةً.. إنه قتْلٌ.. ومع ذلك فإن الجانى يخرج بعد كل جريمةٍ بغير عقاب!.. إن القتيل ليس شخصاً عادياً، والقاتل ليس شخصاً واحداً.. القتيل هو كتاب.. مجرد كتاب.. مجرد حبرٍ وورقٍ وعليهما رأى.. لكن إذا كان القتيل هو «مجرد» كتاب، فإن القاتل لم يكن «مجرد» شخص.. إن القاتل فى كل مرةٍ كان مجموعة أشخاص، أحياناً أغلبية.. إن السكين ربما تحمله فى النهاية أكثر من يدٍ واحدة.. السلطان؟ الملك؟ رئيس الوزراء؟ الحكومة؟ لكنهم فى النهاية سلطةٌ واحدة، لها تفكير السلطة، وأسلحة السلطة، وجبروت السلطة).
ويقول (إن هدف الجريمة فى كل مرةٍ هو هدفٌ عاجلٌ: إعدام الحرية.. فأى محكمةٍ حينما تقرر إعدام مجرمٍ فإنها لا تقصد بذلك تصحيح الجريمة التى ارتكبها، وإنما تقصد بالدرجة الأولى أن تُحذّر الآخرين من سلوك طريقه.. إن كلاً من الأربعة قد أصدر كتاباً يدافع فيه عن الحرية.. كانت جريمة قاسم أمين أنه طلب الحرية للمرأة فى مواجهة الرجل.. وجريمة الكواكبى أنه طلب الحرية للشعب فى مواجهة السلطان.. وجريمة على عبد الرازق أنه طلب الحرية للدين فى مواجهة الملك.. وجريمة طه حسين أنه طلب الحرية للأدب فى مواجهة السياسة).
ويضيف (إن جوهر القضية هو نفسه فى كل مرةٍ.. ومعنى العقوبة هو نفسه فى كل حالة.. فقد تم التشهير بقاسم أمين، وقُتل الكواكبى، وعُزل على عبد الرازق، وفُصل طه حسين كإجراءٍ نهائىٍ.. وقبل ذلك أعلن المجتمع حُكمَه على الأربعة: أنهم خَوَنَة.. زنادقة.. ملحدون.. فاجرون.. ولم يكن كل هذا مفاجئاً.. فالسلطة فى المجتمع العربى كانت لها دائماً مقاييسها الخاصة التى تخفيها دائماً وتُعلنها أحياناً.. إنها تعتبر أن الخوفَ صبرٌ.. والجمودَ عقل.. والتطور جنون.. والتجديد إلحاد.. والحرية كُفر.. والتفكير جريمة.. هذه ليست لوغاريتمات.. هذه مجرد عينةٍ مما ستجده فى هذا الكتاب.. مجرد نموذج من المقاييس التى حُوكِم على أساسها الرجال الأربعة).
ويقول (فى كل مرةٍ كان كل كتابٍ يثير ردود أفعالٍ كثيرة بين المثقفين فى المجتمع المصرى.. ولكن السلطة هى التى كانت تحتفظ لنفسها بحق الحسم فى النهاية.. وحينما تحسم السلطة فإنها لا تفكّر.. لا تُقدّر.. إنها تذبح.. تستأصل.. تقتل.. وللأسف كانت السلطة تجد دائماً مثقفين آخرين يمهدون الطريق أمامها.. مثقفين تجدهم فى كل مجتمعٍ مستعدين للتصفيق للسلطة، طالما أن رأساً آخر هو الذى تحت السيف.. بالطبع من الممكن دائماً أن تُصفق للخطأ وتستمر فى الكتابة.. أو تعرف الخطأ لكن تستمر فى التصفيق له.. هذا ما اختارته الأغلبية فى هذه الأيام التى صدرت فيها هذه الكتب الأربعة.. لكن كلاًّ من الكُتّاب الأربعة اختار طريقاً آخر.. طريق العذاب.. فقد عرفوا أن مكانهم ليس مع القطيع.. ولكن مع الحقيقة.. مع المستقبل.. فدفعوا الثمن الذى كان لا بد أن يدفعوه نيابةً عن غيرهم.. ففى كل جيلٍ من المثقفين تستطيع أن تجد دائماً عدداً قليلاً من الذين يقبلون التضحية بكل شىء: الأسرة والثروة والمركز والأصدقاء والوظيفة لكى يجيبوا عن السؤال المفزع: كيف يجب علينا أن نعيش ونفكّر؟.. السؤال صعبٌ.. والإجابة هامةٌ.. والثمن فادح). كأن محمود عوض كان يتحدث عن نفسه.
ويضيف (لماذا لا نسمى العنكبوت عنكبوتاً؟ القضية هى حرية الرأى.. عندما كانت السياسة فى مجتمعنا تقتل حرية الرأى، فإنها كانت تقتل فى الواقع أشياءً كثيرةً فى مجتمعنا.. إنها تقتل العلم والأدب والتفكير والكرامة والعدل.. تقتل المستقبل.. إنها تزرع الطاعة بدلاً من النقد.. النفاق بدلاً من الصدق.. الخوف بدلاً من الشجاعة.. وفى النهاية كان المجتمع كله هو الذى يدفع الثمن.. إن العِلم غير موجودٍ، لأنك لا تستطيع أن تبنى مجتمعاً علمياً من العبيد.. والأدب غير موجودٍ، لأن الأدب الجيد لا يكتبه أدباء خائفون.. والثقافة لا تنتشر، لأن النفاق يُحقق لك ما تُحققه الثقافة وأكثر).
ويقول (الجبن والشجاعة لا ينقسمان إلى أجزاء.. إن الجبن يتحقق بإعدام الحرية.. والشجاعة تتحقق بانتشار الحرية.. هذا هو التناقض.. لأن الحرية هى فى النهاية شجاعةٌ عقليةٌ.. وحينما تموت شجاعة المواطن فى بيته فإنها لن تُولَد فيه فجأةً خارج بيته.. إن الإنسان لا يستطيع أن يصبح شجاعاً فجأةً بمجرد شعارٍ.. بمجرد خُطبةٍ.. مثلما لا يستطيع الإنسان أن يصبح موسيقاراً فجأةً بمجرد سماعه قطعةً من الموسيقى).
ويختم محمود عوض مُقدمته الرائعة بقوله (إننى أستطيع أن أُعطيك قلبى، سوف أُصبح عاشقاً.. أُعطيك طعامى، سوف أُصبح جائعاً.. أُعطيك ثروتى، سوف أُصبح فقيراً.. أُعطيك عُمرى، سوف أُصبح ذكرى.. ولكننى أبداً أبداً لا أستطيع أن أُعطيك حريتى.. إن حريتى هى دمائى.. هى عقلى.. هى تفكيرى.. هى خُبز حياتى.. إننى لو أعطيتك إياها فإننى أُصبح قطيعاً.. حيواناً.. كميةً مهملةً.. شيئاً بلا قيمة.. شيئاً له ماضٍ ولكن ليس أمامه مستقبل.. إن حريتى هى رأيى.. هى شجاعتى.. هى نبض الحياة فى شرايينى).
رَحِم الله محمود عوض الذى طَبّق أفكاره على مَسلكه ورفض أن يُهين قلمه ويتنازل عن حريته فدَفَع الثمن عزلاً وحصاراً وإفقاراً من أحد بارونات الصحافة فى عهد مبارك.. هذا المجرم الذى طرد محمود عوض من على صفحات أخبار اليوم.. الجريدة التى كان أحد أسباب تألقها.. بحجة أن محمود عوض أكمل الستين.. فى زمنٍ كان فيه بارونات الصحافة ورئيسهم يُمددون خدمتهم إلى يوم القيامة.. فحرَمَ قرّاء أخبار اليوم (مُلاّكَها الحقيقيين) من القراءة لمحمود عوض على صفحاتها التى أُتيحت لغيره من عديمى الموهبة.. لكن محمود عوض ظل مرفوع الرأس لم يَحْنِها إلا لخالقه وهو يحتضر وحيداً فى بيته منذ خمس سنوات.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
كلام جميل ورائع جدا ولكن كيف السبيل لتصحيح اعوجاج السلطه وتحقيق العدل
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
مصر
مصر
عدد الردود 0
بواسطة:
زيكو
كان يجب أن يموت
عدد الردود 0
بواسطة:
جابر محمد
رائع دوما كعادتك