إن نشوء الحضارات ونموها من جهة، وتدهورها وسقوطها من جهة أخرى، يرتبطان ارتباطا جدليا بمسألة «الصراع» وما يرافقه من حركة وتناقض أو توازن، وإن أهم معطيات فريدريش هيغل أحد مؤسسى حركة الفلسفة المثالية تتمثل فى ذلك التأكيد الدائم على أن الحركة الحضارية إنما تحقق مسيرتها صوب الأحسن والأكمل عن طريق الصراع المستمر بين النقائض فى عالم الأفكار، ذلك الصراع الذى يتقابل فيه النقيضان لكى ما يلبثا أن يسقطا عنهما كل سيئاتهما وسلبياتهما ويلتقيا فى موحّد يجمع خير ما فيهما، ثم لم يلبث هذا الموحّد بدوره أن يصطرع مع نقيضه لخلق موحّد جديد يؤول إلى تعبير أرقى عن فكر العالم، وإن المتأمل فى القرآن يجد أنه أكد هذه الحقيقة، مجرد أن نرجع إلى واقعة خلق آدم سنلتقى بهذا المقطع من سورة البقرة آية 34 - 36: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ» الصراع فى أول لحظة، ذلك هو جوهر الحياة البشرية وتميزها على سائر الحيوان، وإذا تتبعنا المعطيات القرآنية حول هذه المسألة وجدنا كتاب الله يمد الصراع إلى أبعد الأمداء طولاً وعرضاً وعمقاً، بالاتجاهين العمودى والأفقى ويغادر به محوره الأساسى التقابل المتضاد بين آدم والشيطان إلى آفاق أخرى تعطيه صورته الكاملة فيجعله على مستوى الكون والطبيعة متوغلا فى صميم تركيبهما، وعلى مستوى الإنسان والبشرية قائما فى مدى علاقاتهما جميعاً.
فمنذ اللحظة الأولى لخلق آدم يجابه الإنسان بقوة الشر المقابلة متمثلة بالشيطان، وبكل ما يملك من أساليب يدهم بها الإنسان من الخارج أو يبرز له من الأعماق، من صميم الذات يجيئه من مسارب العاطفة والوجدان والنفس، أو يندفع إليه من منافذ الحس، أو يستصرخ فيه شهوات الجسد، أو يتقدم إليه محمّلاً ببهرج الدنيا وزينتها يجنّد لقتاله والمروق به عن ساحة الخير كل القوى المادية والمعنوية وكل الذين يختارون أن ينتموا إليه إنساً كانوا أم جناً، ورغم أن أسلحة الشيطان كثيرة، متنوعة، عاتية، فإن الإنسان قد وُهب إزاءها قوى معادية وإمكانات مكافئة تعطى للصراع الدائم بين الطرفين مدى واسعاً ممتداً، بحيث إن النصر والغلبة لن تجىء بسرعة سهلة، كالضربة الخاطفة لأى منهما.
إن هذه المقابلة تمثل تحدّياً واستفزازاً لابد منهما لتحريك الإنسان فرداً وجماعة صوب الأحسن والأمثل، وتصقل طاقاتهما لكى يكونا أكثر مقدرة على المقاومة والصراع، إن الصراع بين الشيطان والإنسان، شامل واسع معقد متشابك، إنه تقابل بين الخير والشر على أوسع الجبهات، تقابل لابد منه إذا ما أريد للحياة البشرية أن تتجاوز الكسل إلى النشاط، والفتور إلى الهمة، والسكون إلى الحركة، إنه ابتلاء فعّال لن يأخذ تاريخ البشرية بدونه شكله الإيجابى ولا يمضى إلى غاياته المرسومة منذ هبوط آدم- ولا نقول سقوطه الكلمة التى لم ترد أبداً فى أى مقطع قرآنى يتحدث عن آدم- إلى يوم الحساب قال تعالى فى سورة الأنبياء آية 35: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»، وفى سورة العنكبوت آية 2: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ»، وفى سورة الأنفال آية 28: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»، وفى سورة الحج آية 53: «لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ».
ويبقى نداء الله الدائم للبشرية فى سورة الأعراف آية 27: «يَا بَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» محورا كبيرا يدور عليه الصراع والحركة والتقدم إلى أمام أو الرجوع إلى وراء، ورغم أن الله سبحانه وتعالى وهب بنى آدم قدرات العقل والروح والإرادة والعمل وعلمهم الأسماء كلها، فإنه لم يتركهم وحدهم فى تجربة صراعهم فى الأرض، وظل يمدّهم حينًا بعد حين، بتعاليم السماء وشرائعها العادلة وصراطها المستقيم الذى يحيل حركة البشرية فى العالم إلى حركة متقدمة أبدًا فى خط متوازن صاعد لا رجوع فيها إلى وراء قال تعالى فى سورة طه 123 - 124: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى».
وهذا الصراع المتنوع المتقابل قائم أيضاً فى صميم العلاقات البشرية، تستقطبه دائماً عبر مجراه الطويل كلمتا الخير والشر أو الحق والباطل، إن قيمة الحياة الدنيا وصيرورتها الحضارية الدائمة تكمن فى هذا الصراع القائم بين كتل البشرية المختلفة المتضادة الموزعة، وإن حكمة الله شاءت حتى بالنسبة للكتلة أو المعسكر الواحد، أن تشهد انقسامًا وتغيّرًا وتنوّعًا وصراعًا، هذه طبيعة العلاقات البشرية ما دامت تمارس حريتها فى الأخذ والعطاء، وتلك هى إرادة الله المسبقة فى أن تكون حياة الناس مغايرة حياة الخلائق الأخرى، إن القرآن الكريم يحدثنا عن هذا التغاير الذى يقوم عليه الصراع البشرى، قال تعالى فى سورة الشورى آية 8: «وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِىٍّ وَلا نَصِير»، وفى سورة هود آية 118 - 119: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
أما عن الهدف من وراء هذا التغاير البشرى الذى يؤدى إلى تناقض، فصراع، فتحرك، فإن القرآن يجيبنا على ذلك فى قوله تعالى من سورة الحج آية 40 - 41: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ»، تلك هى القاعدة الأساسية أن هذا التدافع والصراع المركوز فى جبلّة بنى آدم يقود إلى تحريك الحياة نحو الأحسن وتخطّى مواقع الركود والسكون والفساد، ومنح القدرة للقوى الإنسانية الخيرة أن تشد عزائمها وتصقل قدراتها على المقاومة الصاعدة فى غمرة التحديات المتعاقبة التى يطرحها الصراع، كما أنه ميدان حيوى للكشف عن مواقف الرجال ويتميز من خلاله الطيب من الخبيث وتتحول التجربة إلى منخال كبير، يسقط وهو يتحرك يميناً وشمالاً كل الضعفة والمنافقين والعاجزين والمترددين فى مواصلة الحركة، قال تعالى فى سورة الأنفال آية 37: «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».
إن فهم حقيقة الصراع وفلسفته يجعل الإنسان يتحمل التحديات الرهيبة التى يواجهها فى حياته، خاصة فى ظل الظروف الصعبة التى يمر بها بلدنا ومنطقتنا فى حربها ضد جماعات ودول العنف والإرهاب التى تخطط لهدم المنطقة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة