أحمد الجمال

من دفتر ذكريات الانجذاب

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014 11:53 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان صديقى الدرويش المجذوب عبدالسلام الصباغ يعمل فى الأصل «لبوديا»، أى صانعا لأغطية الرأس الفلاحية المسماة «اللبدة»، وهى من الوبر المائل للون البنى الفاتح، وأحيانا تتم صباغتها إلى ألوان أخرى أشهرها الأسود، وكان لعبدالسلام شقيق عرف باسم شهرة هو «قنبر»، عمل معه فى محل اللبد إلى أن أغلق المحل، بعد أن ترك عبدالسلام العمل، الذى كان يدر عليه دخلا كبيرا بمعايير مداخيل أهل الحرف اليدوية فى الريف، ومنهم «اللبودى، النجار، الحداد، الحلاق، الصباغ، الجزمجى، الخواص الذى يصنع القفف والمقاطف والغلقان والشلايت من خوص النخيل الصرباتى أى الذى ينزح بكابورتات المراحيض حلاق الحيوانات أى الإبل والخيل والحمير- المجبراتى، الجساس الذى يجس أرحام الحيوانات ليعرف عمر الحمل فيها، وأحيانا يشرف على ولادتها، البنا، السمكرى، السقا، المغربلاتى صانع الغرابيل جمع غربال من جلود الحيوانات النافقة، وكان يترصد جثثها الطافية على سطح فرع رشيد أو الترع الكبيرة أو الأخرى الملقاة بجوار المقابر وأطراف القرية، وينزل من على حماره، ويبدأ السلخ بعد عراك مع الكلاب والطيور الجارحة، التى تنهش الجثة»، وغيرها من الحرف.
وكان عبدالسلام يعشق النقود الفضية، خاصة الريالات والبرايز البريزة هى عشرة قروش أيام أن كانت نسبة الفضة فيها عالية، وكان يتعامل بالربا، حيث يقترض منه الفلاحون المزنوقون فى موسم الزراعة أو الحصاد أو دخول الأعياد والمواسم أو عند المرض، وكان يبالغ فى نسبة ربحه الربوى، ثم يرص الريالات والبرايز فى صفائح كبيرة، وعندما تمتلئ الصفيحة يبرشمها بالقصدير، الذى يختصره العامة بكلمة «الأزير»، وهكذا صفيحة وراء صفيحة حتى امتلأت عنده غرفة صغيرة داخلية لا منافذ لها.
عرفت عبدالسلام، وقد ترك المهنة وقال عنه من حوله إن عليه عفريتة، فيما كان الأمر أنه بدأ يقرأ فى كتب التصوف، وبعدها انخرط فى «الطريق»، وزهد الملبس الذى كان يتفنن فى اقتناء أحسنه، أى الجلباب البلدى الصوف الإنجليزى المخيط باليد، أى لقفه الخياط بالإبرة والخيط المخصص لذلك، ووضع على فتحة العنق والصدر القياطين الحريرية المعقودة من الحرير الخالص، وكذلك أطراف الأكمام الواسعة، حيث يكون القيطان عريضا، وكذلك ذيل الجلباب.
ومن تحت الجلباب كان القفطان القطن الفاخر والصديرى، ذو الوجه الحريرى المقلم المزين هو الآخر بالقياطين المناسبة للون القماش، واستبدل عبدالسلام بذلك كله قميصا من الدمور الرخيص واسع فتحة العنق والصدر، والآخذ فى الاتساخ لأنه لا يتم تغييره، وإذا حل البرد القارس تلفح الصباغ بأى هدمة قديمة مهربدة.
كما زهد فى الأكل، وكان يمضى الأيام لا يذوق شيئا!
كنت آنذاك تلميذا فى منتصف المرحلة الإعدادية، وكانت دارنا فى طنطا محطة للرائح والغادى، من أهلنا وأهل قريتنا مضافا إليهم إخواننا الدراويش من أهل الفضل، الذين أحبهم أبى وأهلى، وكان أبى رغم تشرعه وتخرجه فى كلية الشريعة وعمقه الفقهى، فإنه عشق التصوف وكان من كبار محبى آل بيت النبى، صلى الله عليه وآله، ومن مرتادى الموالد ومن المواظبين على صلاة الفجر والعصر فى مسجد سيدى أحمد البدوى، رغم المسافة الطويلة الفاصلة بين دارنا وبين المشهد الأحمدى!
كان عبدالسلام يأتى لحضور رجبية «المولد الرجبى» للسيد البدوى، ثم حضور المولد الكبير، وبينهما حضور موالد لأولياء آخرين منهم سيدى البهى، وعز الرجال والشيخة صباح.. وإذا دخل عبدالسلام دخلت البهجة والونس، ويجلس على الكنبة، وإذا واتته لحظة الصفاء رفع يديه النحيلتين بشدة ووضعهما على أذنيه، وبدأ فى الإنشاد:
نسيم الوصل هب على الندامى
فأسكرهم وما شربوا مداما
ومالت منهم الأعناق ميلا
لأن قلوبهم ملئت غراما
إذا ما عاينوا الساقى تجلى
وأيقظ فى الدجى من كان ناما
وناداهم عبادى لا تناموا
ينال الوصل من هجَر المناما
ينال الوصل من سهر الليالى
على الأقدام واستحلى القياما
فما مقصودهم جنات عدن
ولا الحور الحسان ولا الخياما
سوى نظر الجليل وذا مُناهم
وهذا مقصد القوم الكراما
وكنت أعجب لذلك الحافى العارى، ونحن نمضى فى صقيع النصف الثانى من الليل، وأنا وآخرون «متكلفتين» فى البلوفرات والسويترات والكوفيات والتلافيح، ونلبس الجوارب والأحذية وننفخ فى أيدينا، وهو يحثنا على أن نمشى الهوينا، لأن التراب فيه أحياء مثلنا وفيه أجداث غيرنا.. ولا أظن أبدا أن عبدالسلام الصباغ اللبودى المجذوب كان قد قرأ المعرى أو سمع حتى عنه!
وذات مرة تصادف أن امتلأت الغرف بالأهل والضيوف، ولم يكن ثمة بد من أن أجاوره فى غرفة الجلوس، التى يتجاور فيها طقم أفرنجى مع عدة كنبات بلدى، وأصابنى التردد، والخوف من أن يكون شريكى حاملا للحشرات، أى البراغيث والقمل.. وتلكأت قليلا إلى أن نادى: «يابا أحمد.. إنت مش هترقد علشان نطفو النور»، ودخلت فإذا به ينفض فى وجهى قطعة القماش، التى كان يتلفح بها فتناثر منها سحابة من المبيد الحشرى.. بودرة د.د.ت!.. ثم قال: معلش.. أصل وأنا طالع من البلد القرية قابلنى الشيخ إبراهيم عكاز قدام الجمعية الزراعية، وقال لى خذ يا سلامة شوية البودرة دول اتبدر بهم علشان لو برغوت أو حاجة تانية ما يجوش عليك!!.. ثم أردف: ارقد يابا أحمد على كنبتك.. اطمن ما فيش أذية إن شاء الله!!
كان عبدالسلام يعمد إلى إطعام القطط والكلاب، ولا يقتل حشرة أو فأرا ولا ثعبانا، وكان يقول إنهم «أصحابى ومجاذيب مثلى بيسبحوا ربنا»!
ويحرص على بعض القروش القليلة لأمرين، شراء سيجارتين فلوريدا بثلاثة تعريفة قرش ونصف وكان يسميها «فلوريدو»، وإعطاء الباقى لأول سائل أو أول طفل يقابله.. ولا يحمل مالا بعد ذلك!
سألته فيم أنفقت صفائح الريالات والبرايز الفضية؟ فقال على مجاذيب رصيف سيدنا الحسين!
وسألته: لماذا كنت وأنت فى عز انجذابك تشهق وتخرج لسانك حتى يظهر حلقومك «لغاليغك»، وتصرخ، ثم أحيانا تدمع عيناك؟ فأجاب «كنت أشاهد وأشعر بكائن لا أحدد شكله يأتى ويمسك برقبتى ورأسى، وبيده مسمار حدادى رأسه كبيرة جدا، ومحمى حتى الاحمرار فى النار، ثم يطشه فى «كموخة» وسط رأسى!! وأنا أصرخ وأحس بأن روحى طلعت.. ثم يعقب بهدوء: كان بيطهرنى من أكل الربا».
ظلت علاقتى بالشيخ عبدالسلام الصباغ، الذى كان لبوديا.. مرابيا.. قاسيا، ثم أصبح ساعيا للحقيقة.. زاهدا.. مستغنيا، لطيف المعشر.. لا تمل الجلوس معه، ولا تجزع من طول صحبته، وتعلمت منه ومن المجاذيب أكثر مما تعلمت من مجمل الحركة السياسية والأحزاب المصرية، إلى أن رحل.. وكنت ومازلت كلما أتابع عنف وقبح الإخوان، وصلافة وجفاف روح ويبوسة نفس من يسمون أنفسهم بالسلفيين، أترحم على صديقى وأدعو الله ألا يكون ظهور أهل العنف والقبح والصلافة واليبوسة وجفاف الروح نذير الشؤم الأخير على البلاد والعباد.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة