فى طفولتى كنت أطالع بشغف أفيشات الأفلام التى تعلق فى الشوارع وأمام دور السينما، وكنت مفتونا بمقدرة الرسام على اقتناص ملامح هذا النجم أو ذاك، ولعل أفيش فيلم (سواق نص الليل/ 1958 على ما أعتقد) للنجم فريد شوقى هو أقدم أفيش أتذكر رؤيته ربما فى سنة 1966 أو 1967، إذ كان يعرض فى سينما المؤسسة بشبرا الخيمة، وهى سينما صيفى تعرض الأفلام القديمة، ولم تكن تبعد عن بيتنا سوى بأمتار قليلة، وكان شقيقى الأكبر فوزى- رحمه الله- يصطحبنى دومًا إلى السينما وأنا مازلت طفلا لا يتجاوز عمرى ست سنوات.
كنت أتأمل ملامح فريد شوقى فى الأفيش بإعجاب، وأحاول فى كراستى أن أرسمه من ذاكرتى، خاصة أن والدى- رحمه الله- كان رسامًا باهرًا تفنن فى رسم المشاهير والطيور والحيوانات، وهكذا وأنا تلميذ فى الصف الأول الابتدائى سقطت فى غرام الرسم والأفيشات، وظل تأمل أى أفيش عادة جميلة لم تفارقنى حتى اليوم.
سأقفز فى الزمن نحو 15 عامًا لأكمل لك حكايتى مع الأفيش، فنحن الآن فى صيف 1982، وصاحبكم أنهى السنة الثالثة فى كلية الفنون الجميلة، ويبحث عن عمل فى فترة الصيف، حتى وجد نفسه أمام حسن جسور صاحب مطابع السينما العربية التى كان مقرها فى شارع عرابى بالتوفيقية فى قلب القاهرة الخديوية.
لم يكن جسور- هكذا كان يوقع أفيشاته- سوى رجل جاد.. صارم.. مزوّد بملامح شبه تركية، لكنه رسام عميق الموهبة.. بالغ الرهافة، فقد تخرج فى كلية الفنون الجميلة عام 1948 كما قال لى، وكان المنتجون يأتون إليه بصور فوتوغرافية من الأفلام الجديدة التى يرغبون فى تصميم أفيشات لها، فيختار جسور الصور التى تناسب خياله، ثم يصوغ منها تكوينا فنيا متميزا يصبه على الورق الأبيض، وقد تعلمت منه الكثير، فقد كان محكومًا بأربعة ألوان فقط بسبب إمكانات الطباعة المحدودة آنذاك، وهكذا كنا نترجم- نحن المنفذين- اللوحة التى رسمها جسور بالألوان إلى مساحات من الظلال الرصاصية على ألواح الزنك- 4 ألواح.. كل لون بلوح- مستخدمين فى ذلك قلم فحم «كونتيه»، وفيما بعد ومن خلال قراءاتى عرفت أن «كونتيه» هذا هو اسم أحد أبرز علماء الحملة الفرنسية الذين جلبهم معه بونابرت إلى مصر، وهو من اخترع القلم الرصاص.
أذكر جيدًا أننى شاركت فى تنفيذ أفيشات أفلام (وكالة البلح/ العار/ عضة كلب/ العسكرى شبراوى/ مين فينا الحرامى)، وغيرها، وأنه كان يخصص لى راتبًا شهريًا مقداره 60 جنيهًا، وهو مبلغ معقول جدًا فى ذلك الوقت لطالب جامعى.
وضع جسور المطابع فى الدور الأرضى من مؤسسته، واستقر هو فى الدور الأول الذى كان مكتبا ومرسمًا فى وقت واحد، وقد جعل لى مكتبًا صغيرًا بجواره لأتعلم منه بشكل مباشر، أما الدور الثانى والأخير فكان من نصيب المنفذين.
تذكرت كل هذه الأجواء وأنا أطالع الكتاب المدهش (فن الأفيش فى السينما المصرية) للمؤلف الشاب سامح فتحى.