يتناقل بعض الصحفيين والإعلاميين ما يدور حول قداسة البابا تواضروس الثانى من أوجه الخلاف بشكل يعكس عدم خبرة ودراية بماهية وروحانية الخلافات التاريخية الكنسية، أو بلغة العالم المعاصر «الديمقراطية الكنسية»، ويعود ذلك لطبيعة تأميم المناخ الديمقراطى بعد 1952،وما جرى فى الثلاثين سنة الماضية من تدجين و«أكرسة» المجلس الملى (بعد أن سامهم قداسة الأنبا شنودة شمامسة وهى أدنى درجات الأكليروس) وإفراغ المجلس من مضمونة، لذلك لا بأس من استرجاع بعد المواقف التاريخية التى حدثت داخل الكنيسة لكى يدرك الشباب أن تلك الخلافات جزء لا يتجزأ من البناء الروحى الكنسى.
بعد تأسيس المجلس الملى العام، 1874 حدثت خلافات فى الرأى بين البابا كيرلس الخامس (البطريرك 112، الذى تم جلوسه على كرسى مار مرقص فى نوفمبر 1874 وحضر جلوسه الخديو إسماعيل وابنه توفيق)، وفى هذه الخلافات ناصر بطرس باشا غالى فكرة إجراء انتخابات أعضاء المجلس الملّى، بدلا من أن يُعيّنوا من قِبَل البطريرك (لمزيد من التفاصيل راجع للباحث: الأقباط بين الحرمان الوطنى والكنسى دار الأمين القاهرة 1994) وبالرغم من معارضة البابا استعان بطرس غالى بالحكومة وتمت الانتخابات. وتم تغيير لائحة المجلس بأن يُرفَع البابا من رئاسة المجلس وأن يقوم وكيل المجلس بطرس غالى بعمل رئيس المجلس.ولما فشلت مساعى البابا فى تنفيذ رأيه قَبِل وساطة بطرس باشا الذى نجح فى إعادة حق البطريرك فى إدارة ديوان البطريركية وأوقاف الأديرة، فقط ولكن أعضاء المجلس رفضوا هذا الحل وعاد الموقف للتأزم وتم تعيين أسقف صنبو رئيسًا للمجلس الملّى بدلا من البابا.
وتبنى بطرس غالى طلب بعضا من الكهنة والعلمانيين فى إبعاد البطريرك إلى دير البراموس، وإبعاد مطران الإسكندرية الانبا يؤنس إلى دير الأنبا بولا، وتم ذلك فى سنة 1892 م. ومن يراجع عريضة الشكوى التى كتبها بطرس غالى ضد البابا سيجدها تؤكد على صداقة البابا ومناصرته لأحمد عرابى وعدائه للإنجليز!! (من المعروف أن بطرس باشا غالى الكبير اغتيل بعد مذبحة دنشواى لاتهامه بالعمالة للإنجليز)، وظل البابا كيرلس الخامس فى الدير خمسة أشهر. ويذكر تاريخ الكنيسة.. أن أسقف صنبو بعد ذلك حين دخل ومعه «الإيغومانوس» (رتبة كنسية) إلى الكنيسة لصلاة القداس الإلهى شاءت الإرادة الإلهية أن يُخطئ الأسقف ويقرأ إنجيل خيانة يهوذا الإسخريوطى كما وقعت الصينية من يده، فتشاءم الناس واعتقدوا أن الله غير راضٍ عن المجلس وأعماله، وتعطّلت الشعائر الدينية والتهب الشعور المطالِب بعودة البابا.
عودة البابا واعتذار غالى:
رضخت الحكومة لمطالب الشعب وعاد البطريرك إلى مقر كرسيه معززًا مكرمًا، وبعد عودته بعشرة أيام جاء بطرس باشا لزيارته وبصحبته جميع المحرومين فاعترفوا بالخطأ، وطلبوا الصفح فسامحهم البابا، كما صفح عن أسقف صنبو. وتم الاتفاق على إرجاع الإدارة إلى غبطة البطريرك على أن ينتدب أربعة من أعضاء المجلس لمساعدته فى إدارة شؤون الشعب.
وفى عهده تمت رسامة مطران للخرطوم، وبنيت بها كنيسة كبرى وسبع كنائس أخرى، كما اهتم بأديرة الراهبات من الناحية الرهبانية والعمرانية.ولقب البابا الوطنى بأبوالاصلاح واهتم على غرار كيرلس الرابع بالمدارس وبالتعليم.
من كيرلس الخامس إلى البابا يؤنس:
وتمضى الكنيسة فى مسيرتها الديمقراطية والروحية، وتستمر الخلافات وبعد نياحة البابا كيرلس الخامس صار الأنبا يؤنس قائم مقام بطريرك، وبعد أن أصدر الملك فؤاد ملك مصر قرارا بتعيين الأنبا يؤنس مطران البحيرة والمنوفية وكيل الكرازة المرقسية القبطية الأرثوذكسية تم تجليس البابا يؤنس التاسع عشر فى 7 ديسمبر سنة 1928 طبقا لانتخابات التى أجريت فى ذلك الوقت، وشكك فيها كثيرون ورفعت 8 قضايا من العلمانيين ضده حتى تنيح فى 1942.
من يؤنس إلى مكاريوس الثالث.. ويستمر الخلاف:
تبوأ الكرسى البابوى مطران أسيوط الأنبا مكاريوس (الراهب عبدالمسيح من دير الأنبا بيشوى)، ولعب الأنبا مكاريوس أدوارا وطنية وحداثية كبرى ذلك أنه عقد مؤتمرا قبطيا عظيما فى مدينة أسيوط سنة 1910 . رغم الاعتراضات التى قامت فى سبيله ولم يكتف بذلك بل قدم للبابا كيرلس الخامس فى أول سنة 1920. رسالة عن المطالب الإصلاحية الملية بالاشتراك مع زميله الأنبا ثاوفيلس أسقف منفلوط وأبنوب وقتئذ مما دل على عظم كفاءته ورغبته فى إعلاء كلمة الحق..
ولما تنيَّح البابا كيرلس الخامس فى سنة 1928 . رشحه الشعب للكرسى البطريركى لتحقيق مطالب الإصلاح ولكن حالت الظروف وقتئذ دون تحقيق ذلك ولما تنيَّح البابا يؤنس التاسع عشر سمحت العناية الإلهية أن يتبوأ الأنبا مكاريوس العرش المرقسى ورسم بطريركا على الكرازة المرقسية فى يوم الأحد 13 فبراير سنة 1944 .
وبعد أن تبوأ كرسى البطريركية أصدر فى 22 فبراير سنة 1944 . وثيقة تاريخية غرضها الأساسى إصلاح الأديرة وترقية رهبانها علميا وروحيا وأمر بمحاسبة نظارها ورؤسائها وقد أدى هذا الأمر إلى انقسام كبير بين المجمع المقدس والمجلس الملى العام.وفى 7 يونية سنة 1944 . قدم المجمع المقدس مذكرة إلى البابا البطريرك وإلى وزير العدل بالاعتراض على مشروع الأحوال الشخصية للطوائف غير الإسلامية لأنه يهدم قانونا من قوانين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كما أنه يمس سرين من أسرارها المقدسة وهما سر الزواج وسر الكهنوت وهما من أركان الدين والعبادة.
وقد استمر النزاع وتعذر التوفيق بين المجمع والمجلس وفشلت المحاولات التى قام بها البابا لإزالة سوء التفاهم وأصر المجلس على تدخله فى غير اختصاصه. بل فيما هو من صميم اختصاص المجمع المقدس. حتى اضطر البابا إلى هجر العاصمة مقر كرسيه والاعتكاف فى حلوان ثم الالتجاء إلى الأديرة الشرقية بصحبة الآباء المطارنة وبعد أن استقر فى دير أنطونيوس قصد دير أنبا بولا وقد كان لهذه الحوادث المؤلمة ضجة كبيرة فى جميع الأوساط واهتز لها كل غيور على الكنيسة.
ولما علم رئيس الوزراء بهجرة البابا إلى الدير عمل على عودته مكرما إلى كرسيه فكلل عمله بالنجاح ورفع المجلس الملى إلى البابا كتابا يلتمس فيه عودته حتى يتسنى تصريف شؤون الكنيسة والتضافر على السير فى طريق الإصلاح المنشود وبعد ذلك عاد البابا من الدير فاستقبله الشعب استقبالا حافلا.
وانعقد المجمع المقدس برئاسته وأصدر فى أول يناير سنة 1945. بعض القرارات منها
تمثيل كنيسة أثيوبيا فى المجمع الإسكندرى - تبادل البعثات بين مصر وأثيوبيا وإنشاء معهد إكليريكى بأثيوبيا - قصر الطلاق على علة الزنا - وضع قانون للأحوال الشخصية - جعل لائحة ترشيح وانتخاب البطريرك متفقة مع القوانين الكنسية وتقاليدها - إنشاء كلية لاهوتية للرهبان - تشكيل لجنة دائمة لفحص الكتب الدينية والطقسية - المحافظة على مال الوقف وحسن سير العمل بالديوان البطريركى - تنفيذ قانون الرهبنة الصادر فى 3 يونية سنة 1937 بكل دقة، واستدعاء الرهبان المقيمين خارج أديرتهم - إنشاء سجل فى كل كنيسة يقيد فيه أفراد كل عائلة قبطية، وآخر يقيد فيه أسماء المعمدين والمرتقين إلى رتبة الشماسية والمنتقلين.وفى يوم 6 يونية سنة 1945. حل فى القاهرة بطريرك روسيا فأوفد البابا مكاريوس وفدا من الآباء المطارنة لاستقباله ثم تبادلا الزيارات الودية.
وبعد ذلك اشتد الخلاف بين قداسة البابا والمجلس الملى العام مرة أخرى ولم يحل هذا الخلاف دون تولى البابا أمر الدفاع عن كيان أمته وقوانين الكنيسة خصوصا قانون الأحوال الشخصية للطوائف غير الإسلامية. فرفع رؤساء الطوائف غير الإسلامية بالقطر المصرى وعلى رأسهم بطريرك الأقباط الأرثوذكس بتاريخ 30 مايو سنة 1945. مذكرة إلى وزارة العدل بالاعتراض على القانون الخاص بتنظيم المحاكم الطائفية للأحوال الشخصية وأخرى إلى مجلس الشيوخ والنواب فى 25 يونية سنة 1945. تحوى الاعتراضات التى يجب الالتفات إليها حتى يصبح موافقا لأحوالهم وتقاليد عائلاتهم.
وكان البابا يشكو ضعفا شديدا ألم به فى الأسبوعين الأخيرين من حياته اضطره لأن يلازم قصره معتكفا وتوفى 31 أغسطس سنة 1945.
من التاريخ للحاضر الآتى:
ترى هل هناك دروس مستفادة وأوجه شبه بين الماضى والحاضر؟.. هل يلقى البابا تواضروس الثانى مصير كيرلس الخامس لوطنيته؟ أو يتكرر معه ما حدث مع مكاريوس الثالث لانحيازه للعلمانيين؟ أو أن التاريخ لا يعيد نفسه كما قال أحد الفلاسفة إلا مرتين «مرة فى شكل مأساة وأخرى فى شكل مهزلة»، ربما نكون نمضى فى زمن المهزلة!! حفظ الله الوطن والكنيسة والبابا تواضروس الثانى.