لم يتوقف السؤال عما إذا كان المصريون فقدوا قدرتهم على التنكيت وصناعة البهجة؟. سؤال لم يكن جديدًا وظهر أكثر خلال الأعوام الانتقالية القلقة، وكان يتكرر خلال العقود الماضية، ومع هذا فهو ليس صحيحًا تمامًا. فالشعب يواصل حياته وإطلاق النكات لكن الأمر أخذ اتجاهًا جديدًا، حيث أصبح التنكيت معلبًا كالطعام. تتكرر النكت على مواقع التواصل، ويعاد تقديمها مع الحذف والإضافة، ويمكن أن نكتشف نكتًا من الخمسينيات والستينيات، يتم إعادة تقديمها. وأصبحت «آخر نكتة» غالبًا هى نكتة قديمة تمت إعادة تدويرها.
أنصار فكرة اختفاء النكتة يبرهنون على نظرياتهم بصور لعربات المترو، وينشرونها على «فيس بوك»، تظهر الركاب متجهمين وصامتين. وكل منهم مشغول بنفسه، لكن المشهد الحقيقى أن كل راكب أصبح منكبًا على «موبايله»، يتلقى ويرسل، وينعزل عما حوله ومن حوله. وحتى فى البيوت والمقاهى اختفى التواصل المباشر. من الصعب القول إن المصريين فقدوا قدرتهم على السخرية والبهجة. لكن التواصل المباشر هو الذى ضاع، وأصبح كل واحد غارقا فى شاشته يتابع الأخبار والنكت، وهو أمر جعل النكت والبوستات واللوحات الساخرة تدور وتلف على الجميع. ربما يقدم هذا جزءًا من التفسير، وهو أن الناس اصبحوا معزولين حتى وهم معًا.
بالمناسبة هذه النظرية تسود فى العالم كله، وتناقشها وسائل الإعلام فى الدول الكبرى. وتبذل المؤسسات الاجتماعية جهدًا للبحث عن طريقة تعيد البشر ليكونوا بشرا، ويخرجوا من قواقع التكنولوجيا. بعد أن أصبح المواطن سجينا لمئات البوستات والفيديوهات، بينما لايتواصل مع البشر الآخرين. وعندما يلتقى الناس، فهم يعيدون تبادل المواد المخزنة. وهى غالبًا مواد تحتوى على القليل من الحقائق، والكثير من الشائعات، أو عناوين بلا مضامين.
يعنى التكنولوجيا سرقت جزءًا من سخونة وحيوية البهجة، وجعلت النكات والإفيهات والقفشات معلبة، تمامًا مثل الأطعمة السريعة والمعلبة. والجزء الثانى سرقته السياسة بتعقيداتها وتداخلها وتشابكها.
وحتى فى عز الثورة على مبارك لم يتوقف التنكيت، وكان المثاليون يتصورون أن التغيير بسيط وسهل، حتى جاء أوان السياسة، وظهرت منصات الزعامة، وحل ثقل الدم والاكتئاب مكان خفة الدم. واكتشف الناس أن هناك من يضحك عليهم فكفوا عن الضحك. سرق السياسيون والانتهازيون ضحكة المواطنين أكثر من مرة. ومازالوا عاجزين عن طرح بديل، هناك من يصر على تصدير الاكتئاب والانقسام، وسرقت التكنولوجيا النصف الآخر. وحلت النكتة المعلبة، والأحزاب المعلبة مكان البهجة الطازجة. وحتى المنافقين فى عصر سابق، كانوا أخف دما من منافقى هذا الزمان.