«كل إخواتى ذهبوا إلى المدارس العادية، أما أنا فذهبت إلى مدارس المكفوفين».. هكذا عاد عمار الشريعى إلى سنوات عمره الأولى فى سرده لذكرياته معى، وهى سنوات التكوين الأولى له.
بدا عمار كأنه يعيد ذكريات الماضى، ليس من باب سرد الحكايات، إنما من باب معرفة كيف يستطيع الإنسان مواجهة التحدى، كيف يصارع كل أسباب القهر فيهزمها، يقول: «مدرسة المكفوفين كانت الوحيدة فى القطر، وتابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، وحين يأتى اسم هذه الوزارة لازم تعرف أنها كانت على فيض الكريم، وفور أن تعلم أنها مدرسة للمكفوفين لا بد أن تعلم أنها ليست مدرسة لأبناء الفقراء، إنما للأشد فقرًا، لأن الفقر والجهل سببان مؤكدان للعمى».
يواصل عمار: «كل زملائى فى المدرسة كانوا تحت مستوى الصفر، ومنهم الآتى من قاع المجتمع، لكن الفوارق تذوب أمام الظرف المشترك، وأمام الحياة المتواصلة، فكل التجارب الإنسانية ليس أمامك مفر إلا أن تعيشها مع هؤلاء، وبالتالى تنتقل إليك اهتماماتهم، وبالتدريج تكون جزءًا منهم، وهم جزء منك».
«تعرف حكاية هم يكونوا جزءًا منك وأنت جزء منهم معناها إيه وتطبيقها إزاى؟»، هو يسأل، وأنا أرد السؤال، فيجيب: «كان كتير قوى أن أتكلم مع أصدقائى عن حصانى اللى أبويا أعطاه لى هدية، وأوقعنى وأنا أركبه فى الأجازة اللى فاتت، الكلام ده بيكون بعد كل واحد منا رجع من أجازته وبيحكى اللى حصل له، كنت أقول هذه القصة أو غيرها بحماس كبير ويستمع لى الجميع بنفس الحماس، وبنفس الحماس والرغبة فى الكلام نكون جميعًا حين يتحدث صديق آخر عن شقيق له مرض ولم يجد أهله فلوس لعلاجه وإدخاله مستشفى».
يستخلص «عمار» من ذكر المثلين السابقين دلالات اجتماعية وإنسانية كثيرة شرحها بتأثر كبير: «قلت لك أننا كنا أمام العمى سواء، أنا أحكى عن حصانى اللى أهداه لى أبى، وشوف بقى يعنى إيه واحد أبوه بيهاديه بحصان، فى مقابل صديق يحكى عن محنة شقيقه المريض وأسرته التى لم تجد ثمن علاجه وإلحاقه بالمستشفى، وقائع القصتين تعبر عن فقر وغنى، يسر وعسر، لكنها عندنا نحن المكفوفين لم تكن كذلك، كانت تعنى شيئًا واحدًا فقط، هو أن الاهتمامات مشتركة، وأن المتناقضات الاجتماعية بيننا لا تعطل هذه الاهتمامات، كل واحد فينا أصبح جزءًا من قصص زملائه، أصبح جزءًا من عالمه، أصبح جزءًا من خياله، صديقى الذى يسمعنى وأنا أحكى قصة حصانى لا يسمع فقط، إنما هو نفسه يعيش حكاية إن عنده حصان وحدث له نفس ما حدث معى».
يذكرنى «عمار» بما قلته له من قبل عن ثلاثية «الارستقراطية والبساطة والصياعة» فى شخصيته، يقول: «تقدر تقول إن أحد أبعاد شخصيتى كان يتشكل بما أحكيه لك عما كان يدور فى المدرسة، وكان هناك بعد آخر يتشكل ويعود إلى اهتمام المدرسة نفسها، فلم تكن هناك خطة مؤكدة لاستكمال تعليم المكفوفين، وأكاد أقول إنه لم يبدأ التفكير الجدى فى تعليمنا إلا عندما زار مدرستنا الرئيس جمال عبدالناصر ونحن أطفال».
يتبع