لفت القارئ المحترف والمحترم كريم ممدوح حجازى، نظرى فى رسالة خاصة عبر "فيس بوك" إلى خطأ وقعت فيه ضمن سطور مقالى الذى نشر بـ"اليوم السابع" فى 25 نوفمبر 2014، ولأدبه الجم فقد ساق تصحيحه على هيئة تساؤل يقول: هل هو البابا أوربان أم هو البابا أنوسنت، الذى وقف وراء شن الحملات الصليبية؟!، وكنت قد كتبت أنه البابا أنوسنت والصحيح أنه أوربان الثانى، كما أوضح الأخ الكريم الذى عرفته منذ كان طفلاً جميلاً يمارس شقاوة الأذكياء، إلى أن أصبح رجلاً حضرت حفل خطوبته!، وكما شكرته على الفيس فإننى أشكره فى المكان نفسه، الذى نشرت به المعلومة الخاطئة.. والحقيقة أننى اعتمدت على الذاكرة بعد أن ابتعدت نسبيًا عن مكان مكتبتى، حيث المصادر والمراجع، ويبدو أن الذاكرة التى طالما وصفت بأنها "تصويرية" قد ضعفت ثناياها، ورغم ذلك فإننى خلطت بين اسم "أنوسنت"، الذى حمله أكثر من واحد جلسوا على كرسى البابوية الكاثوليكية، أشهرهم نسبيًا هو البابا أنوسنت الثالث بابا روما، ابتداءً من الثامن من يناير 1198 حتى وفاته فى 1216، وبسرعة فإنه من أكثر البابوات نفوذًا وتأثيرًا فى تاريخ البابوية، وتشدد فى أن سلطته تعلو سلطة الإمبراطور، وقد شارك فى الحروب الصليبية لأنه الذى نظم الحملة الصليبية الرابعة التى تحولت من استهداف بيت المقدس إلى التوجه للقسطنطينية، واقتحمها الصليبيون فى عام 1204 ميلادية.
أما البابا أوربان الثانى فقد أطلق دعواته لتخليص القدس والأراضى المقدسة من أيدى المسلمين عام 1095، وكانت الحملة الصليبية الأولى التى انطلقت عام 1096 واسمرت سنوات ثلاثة.
وربما يصح أن نشير إلى أن إعادة قراءة تاريخ الحملات الصليبية ومعه تاريخ الشرق العربى ومصر تعد أمرًا مهمًا الآن، لأننا فى ظرف يصدق عليه أكثر من أى ظرف آخر "ما أشبه الليلة بالبارحة"! وما زلت أذكر محاضرات تاريخ الحملات الصليبية التى كان يحاضرنا فيها الأستاذ الدكتور حسن حبشى، رحمه الله، وقد كان متميزًا بقامته القصيرة وملامحه شبه الأوروبية، وكان كثيرًا ما يتندر على طلابه فيسمى هذا عبد السميع، ويسمى الآخر الكوثرى، ويسمى الثالث بالاسمين معًا "عبد السميع الكوثرى"، وكان يمزح أحيانًا فيقول: أنا مع المسلمين باسم "حسن"، ومع المسيحيين باسم "حبشى"، وله كتب فى تلك الحملات وبعضها تحقيق لمخطوطات، وأذكر أننى قرأت مقالات مترجمة عن الإنجليزية فى مجلة "الرسالة"، التى كان يصدرها الراحل الأديب محمد حسن الزيات، وفى مجلد عام 1936 وقعها الأديب حسن حبشى!
وما زلت أذكر أيضًا أن العلامة الدكتور محمد عبد الهادى شعيرة كان يحاضرنا فى تاريخ المغرب العربى الكبير، ويركز على دولتى الموحدين والمرابطين وقبائل زناتة وكتامة، وأن الدكتور عبد المنعم ماجد حاضرنا فى تاريخ الدولة الفاطمية أو بيزنطة وتاريخ الكنيسة، فقد كان العلامة الفذ إسحق تادرس عبيد، الذى ظننا لآخر العام أنه مسلم حسن الإسلام!، وللدكتور إسحق الفضل فى اهتمامى وحبى لتاريخ العصور الوسطى الأوروبية وتاريخ الكنيسة وللقراءة فى اللاهوت.
وأعود إلى القراءة بمناسبة القارئ الذى راجعنى وصحح لى فأجد أننا أمام ظاهرة أضحت معقدة إلى حد كبير هى ظاهرة القراءة الإلكترونية، التى تتسع دوائرها لحظة بعد أخرى، وهل ستنهى القراءة الورقية أم لا؟!
والحقيقة أننى على المستوى الشخصى ما زلت أزعم أن للورق مذاقًا خاصًا لا يتوافر فى الكمبيوتر، وكم هو الفارق كبير بين أن تأتينى الصحف مطوية لم تمتد إليها يد لتفتح صفحاتها، وبين أن أتناول الهاتف المحمول وأفتح المواقع أو الفيس لأطالع ما عليها، وأحيانًا ينقطع إرسال النت أو تخفت قوة البطارية أو يقتحمنى إعلان أو دخيل.. بل إن مذاقًا خاصًا جدًا يرتبط بأن تكون يدك هى أول يد امتدت للصحيفة، وتكون عينك أول عين تجولت فيها، ثم بعد الصحافة تأتى المكتبة الخاصة، حيث أظننى مع كثيرين آخرين مازلنا أسرى للكتاب الورقى المطبوع، وأسرى لدواليب أو خزانات الكتب المتجاورة فى المنازل وردهاتها، وعلى سطح المكتب وعلى الكومودينو بجوار الفراش، وأيضًا على الطاولة "الترابيزة"، التى تتوسط مكان الجلوس الصباحى والمسائى أمام التليفزيون "الأنتريه"!.. وأزعم أن كثيرًا من الأفكار كان وليد صدفة تجوال بصرى على كعوب الكتب المرصوصة، أو وليد صدفة إعادة ترتيب للأرفف أو لتنظيفها من الغبار، وكثيرًا ما كنت أعمد إلى ترك الكتب متناثرة فى طريق الأولاد لعل وعسى أن تمتد يد أحدهم على كتاب ولو لمجرد حب الاستطلاع، وكثيرًا ما أفلحت الحيلة حتى صار بعضهم يسعى بنفسه إلى أرفف المكتبة للبحث عن كتاب أو للاستفادة بمعلومة.. بينما لم يساعدنى الكمبيوتر حتى الآن فى أن يرتب لى هذه الصدفة، لأن التعامل معه يكون بالتعمد العامد إلى الوصول لمعلومة بعينها دون أن يأخذ المرء فرصة للتجوال الحر، كما بين أرفف المكتبات. وربما يقول قائل: إن المكتبات بنفسها يمكن أن تكون موجودة هى الأخرى إلكترونيًا، بمعنى أنك يمكن أن تجد دار الكتب فى بلد ما، وقد وضعت محتوياتها على الحاسوب لتكون متاحة عبر خط "لينك" معين ليصل إليها من يشاء وقتما يشاء.. ومع ذلك فمازال أمثالى من مدمنى رائحة الورق ومتذوقى شكل الخط وهواة التهميش والتخطيط على صفحات كتبهم الخاصة -وليس فى المكتبات العامة بالطبع- يحرصون على تزويد مكتباتهم الشخصية كل فترة بالجديد من الكتب أو بالنادر القديم، الذى تصل قدرتهم الشرائية إليه!
إننى ما زلت أقتنى كتبًا احتوتها مكتبة جدى لأمى ومكتبة أبى، بعضها مكتوب بخط اليد بقلم البوص، ومطالع صفحاته مزخرفة بالزخرفات الإسلامية "أغصان الشجر وأوراقه، وتداخلات الأشكال الهندسية.."، ومذهبة بألوان ذهبية ظلت زاهية رغم السنين ورغم الثقوب التى تحدثها حشرة العثة فى الأوراق!
ولأن الاعتراف سيد الأدلة فإننى لن أخفى امتنانى للقائمين على الموسوعة البريطانية التى كان لا يقتنى مجلداتها الفخمة رفيعة القدر والقيمة، إلا الأثرياء الوجهاء المهتمون بالثقافة، وبعضهم مصاب بحب الظهور، وكان وما زال ثمنها يتجاوز ربع المليون جنيه بأسعار أيامنا هذه، ولكن البريطانيين سهَّلوا الأمر لأمثالى وأصبحت الموسوعة البريطانية على أسطوانة إلكترونية لا يتجاوز ثمنها أربعين جنيها إنجليزيًا، أى حوالى 450 جنيهًا مصريًا، وقد حرصت وما زلت على اقتناء إصداراتها -بدلاً من طبعاتها- كل عام!
إن الخوف الذى يعترى كل ذى مكتبة فى منزله هو مصير كتبه، وما إذا كان سيفاصل فيها بائع الروبابيكيا قائلاً: إنها لا تساوى جهد نقلها، وحتى إن أهداها للكلية أو المدرسة اللتين تخرج فيهما فقد تبقى مركونة فى مخزن ما، لأنه لا مكان للمكتبة أصلاً.. وكم فجعنى أن اشتريت منذ شهور كتابًا كنت أبحث عنه منذ فترة فإذا بى أجد على صفحته الداخلية الأولى إهداء من فلان إلى فلان.. وكان الفلان المهدى إليه شخصية مشهورة فى الحكم وفى السياسة، وانتقل إلى جوار ربه قبل أسبوعين من تاريخ شرائى الكتاب.. يعنى الورثة "ما صدقوا" إنه "توكل"، وكانت مكتبته على الأرصفة!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
الذاكره الروبابيكيا اصبحت مشكلة هذا العصر ويفضل الاحتفاظ بالكتب والمراجع حتى الرمق الاخير