ورثنا عن الفراعنة أسوا ما فيهم، وهى عادة أن كل فرعون يأتى يقوم كهنته بمحو النقوش التى سطرها الفرعون الذى يسبقه، وبسبب هذه العادة الفرعونية المتأصلة والمتجذرة فى الشخصية المصرية، والتى تكاد تكون شئا جينيا يتساوى فيه الإخوانى مع فلول الوطنى، والسلفى مع الأناركى الفوضوى، لا توجد فى ثقافتنا حكاية تواصل الأجيال. المجالات التى تؤيد كلامى سوف تلمسها سعادتك فى كل مكان يحيط بك. أنا هنا بصدد الحديث عن متحف الحضارة هذا المشروع سيئ الحظ، الذى كان من المفترض أن يكون فاتحة خير على الصناعة الثقافية والاستخدام الأمثل لمصر فإذا بالنحس يطارده إلى يومنا هذا رغم افتتاح رئيس الوزراء له مؤخرا، فكرة إنشاء المتحف القومى للحضارة المصرية عمرها 36 سنة، بالتمام والكمال وترجع تحديدا إلى عام 1978، عندما أعلنت الحكومة المصرية فى ذلك عن رغبتها فى التعاون مع منظمة اليونسكو فى إنشاء متحفين جديدين، أحدهما خرج للنور فى عهد الوزير فاروق حسنى للحضارة النوبية فى أسوان، وضم بين جنباته مجموعة من الآثار النوبية التى تم إنقاذها أثناء تنفيذ الحملة العالمية التى أدارتها اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة من العام 1960 إلى العام 1980، وكان المتحف الثانى هو متحف يعنى بالحضارة المصرية بمفهومها الأشمل منذ الفراعنة إلى يومنا هذا على أن يكون مقره القاهرة، وتم اختيار المكان فى البداية ليكون فى أرض دار الأوبرا بالجزيرة، ولا زال حجر الأساس موجودا إلى يومنا.
ولكن ولأن المتحف، أى متحف لابد أن يكون للقائمين على تنفيذه رؤية وفلسفة، قرر فاروق حسنى، وكان ساعتها وزايرا للثقافة، قبل انفصال الآثار فى وزارة وحدها، أن يفكر خارج الصندوق، وبحث عن موقع جديد أكثر رحابة، ويبرز فيه المعانى التى ترتكز عليها الحضارة المصرية، وجعلتها خالدة باقية، عبر آلاف السنين، بحث، ولم يجد أفضل من الموقع الحالى فى الفسطاط، الذى تتجلى فيه عبقرية الموقع.
المتحف أمام عين الصيرة، التى يمكن تحويلها من مقلب للنفايات إلى بحيرة سياحية تضيف لـ«اللاندسكيب» وتثريه، وعلى يمين الناظر فى أقصى اليمين الأهرامات رمز الحضارة الفرعونية، وفى يسار الناظر يرى القلعة، كأحد رموز الحضارة الإسلامية، وعلى بعد أمتار من المتحف، يوجد أكبر وأعظم متحف مفتوح للأديان السماوية: جامع عمرو بن العاص، والكنيسة المعلقة، ومعبد عيزرا، ليس هذا فحسب ففى نفس المكان مركز الفسطاط للحرف التراثية والتقليدية، على مرمى حجر من صناعة الفواخير التراثية.
ولكن.. وآه من لكن، المشروع كان نحسا على العاملين فيه، وسجن الأثرى الذى كان بيده ملف المشروع فى قضية رشوة، وتغير الوزراء عدة مرات، وتغير المسئولون عنه كثيرا، وكل جديد يسعى جاهدا إلى محو ما كان يريد عمله سابقه، وتغيرت اللجان العلمية التى كانت تختار القطع الأثرية، وسيناريو العرض المتحفى، والأخطر جاء بعد ثورة يناير عندما ضرب مشروع المتحف فى مقتل رغم انتهاء الأعمال الإنشائية له، لعدم وجود تمويل، ولأن اليونيسكو التى توفر الدعم الفنى والتقنى للمشروع لم تستشعر حرص الجانب المصرى على الإنجاز، وبمجهودات فردية رأى د. ممدوح الدماطى، وزير الآثار، أن يفتتح المرحلة الأولى التى هى فى الحقيقة لن يراها الجمهور، ولكنها تهدف إلى إعطاء دفعة معنوية للقائمين على المشروع، ويشجع اليونسكو على الاستمرا وألا تنفض يدها من المشروع.عندما تفحصت الوجوه المشاركة فى افتتاح المرحلة الأولى لم أجد فاروق حسنى، ولم أجد د. زاهى حواس، ولم أر كثيرا من الوجوه التى كان لها الفضل فى هذا الإنجاز الذى نتمنى أن يستمر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة