من كان يتابع تلك الحالة من التوتر التى شابت العلاقة بين الألتراس من ناحية، والدولة ممثلة فى جهاز الشرطة من ناحية أخرى طوال الفترة الماضية، والتى ترتب عنها «تسييس» روابط المشجعين، وتوظيفها لتنفيذ أعمال بعيدة كل البعد عما يعرف بـ«الروح الرياضية»- لا يمكن أن يتوقع بأى حال من الأحوال أن يرى هذا المشهد الحضارى الذى فوجئنا به ونحن نتابع مباراة كأس الكونفدرالية التى حصل عليها النادى الأهلى وسط حالة من الفرحة العارمة من جميع جماهير الكرة المصرية، باعتبار أن فوز الأهلى بهذه الكأس يمثل انتصارًا جديدًا يضاف إلى رصيد الكرة المصرية العريقة من البطولات الدولية، فالأهلى هو النادى المصرى الوحيد الذى تمكن من الحصول على هذا الكأس فى تاريخ الكرة المصرية.
وكأن النادى الأهلى العريق على موعد دائم مع المفاجآت، وكأنه على عهده لمحبيه بأن يكون بالنسبة لهم بمثابة «صانع السعادة»، فدائمًا يسعد الملايين من عشاق الفانلة الحمراء بإنجازاته على المستويين المحلى والدولى، لكنه هذه المرة قدم لنا مفاجأته الرائعة التى لم يكن يتوقعها أحد، والتى تمثلت فى كسر «حالة الخصام» بين الألتراس وجهاز الشرطة، فقد ظهر ألتراس الأهلى بكل صدق وبدون أى تحيز على نحو كبير من الروعة، حيث اتسمت تلك العلاقة التى شهدت تعاملاً مباشرًا بين الألتراس والشرطة بشكل حضارى لم نره من قبل بهذه الروح الجميلة، على الرغم من أن ذلك اليوم كان قد بدأ ملبدًا بالغيوم نتيجة اقتحام الألتراس مدرجات «التالتة شمال»، لكن ما جرى من تفاوض متحضر ومحترم بين الطرفين أدى فى نهاية الأمر إلى تلك النتائج التى لا ينكرها إلا شخص جاحد أو حاقد، أو أن يكون من بين هؤلاء الذين لا يحبون لمصر أن تعيش حالة الاستقرار.
وإحقاقًا للحق فإننى أرى أن تلك الحالة التى عشناها خلال الأيام القليلة الماضية لم تأت من فراغ، إنما هى انعكاس طبيعى لعدة عناصر تكاملت فيما بينها لتقدم لنا فى النهاية نموذجًا يجب أن يحتذى به فى الرياضة المصرية، نموذجًا تفخر به جماهير وعشاق كرة القدم.
أول هذه العناصر من وجهة نظرى يتمثل فى هذا الاهتمام اللافت للنظر من جانب الرئيس عبدالفتاح السيسى بروابط المشجعين «الألتراس»، ففى مناسبتين متقاربتين شدد الرئيس على أهمية استثمار طاقات الألتراس، وتوجيهها للعمل لصالح الدولة، خاصة فى ظل هذه الأجواء المفعمة بالوطنية والمليئة بالرغبة العارمة فى التحرك نحو التنمية فى شتى مجالات الحياة.. المرة الأولى التى أشار فيها الرئيس إلى هذه المسألة كانت فى أعقاب المبارة التى فاز فيها الأهلى بالكأس، حيث أشاد وبشكل مباشر بدور رابطة مشجعى النادى الأهلى «الألتراس» خلال المباراة، ووصفهم بأنهم قدموا صورة مشرفة لمصر، وظهروا بوجه مشرف أمام العالم. أما المرة الثانية التى أبدى فيها الرئيس إعجابه بما قام به ألتراس النادى الأهلى كانت فى لقائه الأخير مع مجموعة من شباب المبادرات المجتمعية، حيث أيد وجهة نظرهم بضرورة الحوار مع هؤلاء الشباب من أعضاء «الألتراس»، مؤكدًا أن مصر تحتاج كل طاقات أبنائها خلال الفترة المقبلة.
وهكذا نلمس بوضوح وبشكل لافت للنظر أن اهتمام الرئيس وحرصه على الحوار مع شباب الألتراس جاء فى الوقت المناسب لأن مصر الآن فى حاجة بالفعل إلى كل يد تبنى، وإلى كل سواعد أبنائها المخلصين الذين لا يعرفون العنف، ويرفضون الانجراف نحو مظاهر التطرف.
ولأننى على يقين من أن الأزمة التى كانت قد اندلعت بين الألتراس والدولة منذذ عدة سنوات هى فى حقيقة الأمر مجرد أزمة سياسية فى المقام الأول، بسبب انحراف بعض روابط مشجعى الرياضة عن مسارها الصحيح لأسباب لا تخفى على أحد، حيث كانت قد بدأت تلك الأزمة وصاغتها أيدى بعض القوى السياسية التى كانت تسعى جاهدة نحو تقويض مؤسسات الدولة وهدم الدولة القوية وإحلالها بالفوضى والانفلات والعنف والتطرف، لذا فإننى أرى أن التوجه الذى اتخذه مؤخرًا اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، بتغيير أسلوب وشكل التعامل مع «الألتراس» كان له عظيم الأثر فى صياغة علاقة جديدة بين الجانبين، وهو ما ظهر جليًا فى تلك المباراة الفارقة والفاصلة فى عمر الرياضة المصرية بصفة عامة، وليس النادى الأهلى فقط.. فلأول مرة نرى رجل الشرطة يدًا بيد مع المشجعين وهو يقدم لهم التحية على تلك الروح التى ظلت غائبة عن الأذهان فترة طويلة.. وتوقفت طويلاً أمام هذا الرقى فى التعامل بين الطرفين، فإن لم يكن الأمر على هذا النحو من المصداقية، فبماذا يمكن أن نفسر تلك المشاهد المبهجة الممزوجة بالفرحة التى اكتست بها وجوه رجال الشرطة والجماهير على حد سواء وهم يعزفون معًا سيمفونية رائعة فى عشق الكرة المصرية عقب الفوز بالكأس، ففى هذه اللحظات لم يعد يفرق معهم إن كان الفائز هو النادى الأهلى أو أى نادٍ مصرى آخر.
وهذا فى رأيى يمثل الأهمية القصوى لما قام به اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، من تغيير فى أسلوب التعامل مع هذا النوع من المناسبات الكروية التى كانت فى الغالب تنتهى بأعمال حرق وعنف وشغب وصل إلى ذروته فى حادث استاد بورسعيد الذى لم يغب عن الأذهان، لكن النتائج الطيبة التى أذهلت الجميع أكدت- وبما لا يدع مجالاً للشك- أن خطة تغيير لغة الخطاب الأمنى مع الألتراس التى تبنتها الدولة وترجمها بشكل عملى اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، كانت خطوة صائبة نحن أحوج ما نكون إليها الآن لتغيير تلك المنظومة المغلوطة بالكامل، فالفوز بكأس الكونفدرالية فى تلك الأجواء قد جاء مشرفًا وبطعم وحلاوة وجمال الكرة المصرية التى اعتدنا أن نتذوقها من خلال النادى الأهلى العريق الذى يقوده عن جدارة المهندس محمود طاهر الذى يعمل فى صمت ودون أى ضجيج، تاركًا إنجازاته تتحدث عنه وعن القلعة الحمراء معشوقة الملايين من المشجعين ليس فى مصر فحسب، بل فى مختلف أنحاء العالم العربى أيضًا.
ولأننى كنت من أشد المؤيدين للمهندس محمود طاهر فقد كنت على يقين بأنه لن يخذل عشاق الساحرة المستديرة الذين يضعون على ناديهم آمالاً كبيرة فى المزيد والمزيد من الانتصارات التى تنعكس بشكل طبيعى على سمعة الرياضة المصرية بصفة عامة، فها هو يثبت كل يوم أنه كان جديرًا برئاسة النادى الأهلى، وهو أمر يشهد به من كانوا يعارضونه وليس مؤيديه فقط، فمنذ توليه المنصب لم يتجاهل أحدًا مهما كان موقفه منه خلال تلك الفترة العصيبة التى سبقت توليه رئاسة النادى، لذا فإننى أرى وبدون أى تحيز أن وجود المهندس محمود طاهر على رأس النادى الأهلى فى هذا التوقيت بالذات كان سببًا رئيسيًا من أسباب تلك المصالحة التى تشكل أول ملامحها بين الدولة والألتراس فى أجواء مبارة الأهلى فى نهائى كاأس الكونفدرالية.
وأنا على يقين بأنه حينما يقوم مشجعو نادى عريق مثل الأهلى بترك تلك الصورة الجميلة فى الأذهان، ويؤدى رجال الشرطة واجبهم بهذه الروح الجميلة، والتعامل غير المألوف فى مثل تلك المواقف، فإن المسألة هنا لا يمكن بأى حال من الأحوال أن تكون وليدة اللحظة، أو أنها قد هبطت علينا فجأة من السماء، ولكنها وبكل تأكيد لابد أن يكون وراءها مايسترو قام بصياغتها فى جمل لحنية رائعة أمتعت الجميع، وأسعدت كل الأطراف.. هذا المايسترو الذى أعنيه فى قولى هو المهندس خالد عبدالعزيز، وزير الشباب والرياضة، فلم يكن بعيدًا عن هذا المشهد الرائع، خاصة أن الأجهزة الأمنية كانت على تواصل مستمر معه قبل المباراة، تمهيدًا لصدور قرار بإلغائها فى أعقاب عملية اقتحام بعض عناصر الألتراس للاستاد، ولكن هنا يظهر الفكر والرؤى والاستراتيجيات فى التعامل مع الأزمات بشكل صحيح، فلم يتعامل مع الأمر بنفس وتيرة العنف المعروف عن الألتراس، بل بهدوئه المعتاد، وبأعصاب هادئة أدار الأزمة مع جميع الأطراف مع الداخلية ومع الألتراس ومع النادى الأهلى.. ولأن النية كانت خالصة لوجه الله والوطن، فقد جاءت النتائج على هذا النحو من الاحترام.
كما أن دور خالد عبدالعزيز فى خلق تلك الأجواء المفعمة بالاحترام بين الألتراس والدولة لم يكن فقط فى تلك اللحظات التى شهدتها المباراة وما بعدها، لكن التحول الحقيقى الذى استطاع أن يحدثه فى هذا المجال يتمثل فى وجهة نظره التى يجب أن تكون محل احترام وتقدير من جانب الأندية، فوزير الشباب والرياضة سبق أن قال لى إنه يترك للأندية حرية العمل بالشكل الذى تراه تلك الأندية دون تدخل من جانب الوزارة، فليس مطلوبًا من وزارة الشباب والرياضة أن تتدخل فى إقالة مدير فنى، أو فى وضع تصورات لطبيعة إدارة النادى من الداخل.. الوزارة فقط تضع اللوائح العامة الملزمة للجميع، لكن للأندية حرية إدارة نفسها بنفسها، وحسب ما لدى رؤساء تلك الأندية من تصورات تتعلق بطبيعة علاقتها بالمجتمع، سواء الألتراس أو مؤسسات الدولة بصفة عامة.
لقد ترددت بعض الشىء قبل أن أبدأ فى الكتابة فى هذا الموضوع لأننى كنت على يقين بأننى لا أستطيع أن أخفى تحيزى للنادى الأهلى، فأنا مثل الملايين الذين يعشقون هذا النادى العريق لا يرون سواه على ساحة الكرة المصرية، ولا يرضون إلا بالنجاح.. لكن بعيدًا عن عشقى للأهلى ما كان يجب أن أغفل مثل هذه المناسبة التى أعتبرها- وبكل صدق- نقطة تحول حقيقية فى العلاقة بين الدولة والألتراس، فما حدث فى مباراة الأهلى وسيوى سبورت الإيفوارى رفع درجة حرارة المناخ الرياضى إلى أقصى معدلاتها، فكان هذا «اللهيب» مصدرًا مهمًا لإذابة الجليد الذى تراكم على مدى السنوات الماضية، وأفسد علينا أشياء جميلة كنا نتفاخر بها حينما كنا نتحدث عن أمجادنا الرياضة، لكن قدّر الله وما شاء فعل، وها نحن الآن نسير فى الطريق الصحيح من أجل إعادة الأمور إلى وضعها الطبيعى.