ظواهر وشواهد كثيرة تؤكد أننا إزاء حالة من التراجع المستمر فى الحراك السياسى، فالاهتمام الشعبى بقضايا السياسة والحكم انخفض بصورة ملحوظة، وعدد ونوعية الائتلافات الثورية وغير الثورية فى تراجع، إضافة إلى اختفاء عشرات الحركات والجبهات الشبابية، أما الأحزاب فحدث ولا حرج عن ضعفها وتفككها، فمعظم الأحزاب لا وجود لها، أما الأحزاب ذات الحضور السياسى، فهى لا تعمل فى الشارع وبين الناس، وأمراض النخبة السياسية من انتهازية وحب ظهور ونرجسية لا تزال تفسر كثيرا من المواقف أو التحالفات السياسية التى تظهر ثم تنهار.
أعتقد أن هناك مجموعة من الأسباب التى تفسر تراجع الحراك السياسى التى فجرتها ثورة 25 يناير وموجتها العظيمة فى 30 يونيو، لعل أهمها أولا: إن أغلبية المصريين تتوق للاستقرار ولدعم الدولة ومؤسساتها، وبالتالى صار لديها قناعة بأن الحراك السياسى قد لا يدعم الاستقرار أو عودة الدولة القوية، ثانيا: إن أخطاء الإخوان فى الحكم ثم فى المعارضة ودعمهم للإرهاب أربك الوعى السياسى لقطاعات واسعة من المصريين، ودفعهم للتركيز على الاستقرار ومحاربة الإخوان والإرهاب. ثالثا: إن انتشار التفكير بالمؤامرة وتصوير 25 يناير كمؤامرة كبرى، واتهام النشطاء السياسيين بالعمالة.. كل ذلك جعل قطاعات واسعة من المصريين تشك فى صدق نوايا الأحزاب والقوى الثورية والنشطاء السياسيين، مما أفقدهم القدرة على التأثير وتحريك الشارع. رابعا: أولوية الاعتبارات الأمنية على الجوانب السياسية فى معركة الدولة والشعب ضد الإخوان والإرهاب، وبالتالى فقد حرصت الحكومة على تطبيق قانون التظاهر وغيره من الإجراءات والتى أعتقد أنها تؤثر بالسلب على الحياة السياسية.
خامسا: أدت كاريزما السيسى والثقة فى أدائه إلى رهان كثير من المصريين عليه، وعلى قدرته على النجاح، وبالتالى تراجع الاهتمام بالأحزاب والحياة السياسية، بل وبجدوى المشاركة السياسية، ولا شك أن الرئيس السيسى لا يريد ذلك أو يرحب به، لكنه الواقع الذى لا بد من تغييره بحيث يقنع الرئيس أنصار بضرورة المشاركة السياسية والانخراط فى أحزاب، لأن حيوية المجال العام والحياة السياسية من شأنها دعم فرص نجاح السيسى. سادسا: تراجع اهتمام الإعلام بالقضايا السياسية حيث بدأت برامج التوك شو تركز على قضايا غير سياسية، كما اختفت دعوتها للجمهور للمشاركة السياسية. سابعا: إن حالة السيولة والتكالب على مقاعد البرلمان، علاوة على مواقف وتصريحات قادة الأحزاب تجاه كثير من القضايا الحيوية لا تشجع الجماهير على الثقة فيهم، ومن ثم الانخراط فى العمل السياسى.
الأسباب السبعة السابقة هى محاولة لتفسير تراجع الحراك السياسى وربما نهايته، وأنا شخصيا لا أسلم بصحة بعض هذه الأسباب مثل ادعاء أن ثورة 25 يناير مؤامرة أو اتهام كل النشطاء بالعمالة أو الحصول على تمويل أجنبى، أو القول إن شوق المصريين للاستقرار يعنى انسحابهم من المجال السياسى أو أن التحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية السياسية يقود إلى موت السياسة أو تراجع الحراك السياسى، أنا غير مقتنع بهذه المقولات غير المنطقية، ومع ذلك تظل أسبابا تفسر وتؤثر فى تراجع ظاهرة الحراك السياسى التى أعتقد أنها أحد أهم مكاسب ثورة 25 يناير التى ينبغى الحفاظ عليها ودعمها، لأن الحراك السياسى وارتفاع معدلات المشاركة السياسة يدعم الشرعية السياسية التى تتطلب مؤسسات قوية فى مقدمتها وأحزابا فاعلة وبرلمانا قويا، كما يدعم جهود محاربة الإرهاب ونجاح المشروعات التنموية الكبرى وتحقيق العدالة الاجتماعية.