كلما هزنى الشوق إلى هناك، وقد أصبح من الصعوبة أن أركب الطريق من القاهرة إلى طنطا عبر الزراعى، ومن طنطا إلى بسيون، ومن بسيون إلى جناج فى طريق مزدوج ضيق تعربد فيه الميكروباصات ونصف النقل، والنقل الثقيل الهارب من كمائن الطريق الزراعى بين الإسكندرية والقاهرة، وتمرق فيه التكاتك وتتباطأ الكارو، وتقطعه فجأة الجرارات الزراعية وماكينات الرى، التى تجرها الجرارات أو تسحبها الحمير ومعها خاصة عند الغروب لا يمكن أن تتوقع حركة العائدين من الغيطان إلى الدور يسحبون بهائمهم، مثنى وثلاث ورباع، ومعها أحمال من البرسيم أو عيدان الذرة.. الأمر الذى يجعل قيادة سيارة فى هذا المولد مغامرة نادرا ما تحمد عواقبها.
فلما يهزنى الشوق أسعى إلى هناك من طريق آخر، هو هاتفى المحمول فأتجه بأصبعى إلى «خرائط»، وقد سجلت عليها العنوان فتأتينى الدلتا، وبسرعة تظهر تفاصيل الطرق والمجارى المائية «فرع رشيد، وترعة الباجورية المعروفة نواحينا بترعة القضابة»، ثم الطرق الفرعية، وأجد نفسى فى جناج بلدنا مباشرة!
ومن الصورة الكلية التى تظهر فيها القرية بقعة غير منتظمة إلى الصورة التفصيلية أحدد الاتجاهات بالمعالم الرئيسية، وهى السكة النازلة من الطريق الرئيسى المتجه إلى دسوق، وعليها تظهر معالم قديمة أعرفها فلا أتوه فى غابة المبانى الجديدة، التى أكلت الأرض الزراعية.. وعلى رأس تلك المعالم مقابر أبى العبد «الترب»، وتنطق «طرب»، بتاء مفخمة، وقبلها بمسافة مبنى الجمعية الزراعية، وأمشى مع السكة بانحناءاتها حتى أحدد معالم أخرى ترشدنى إلى مواقع الدور، التى ولدت وعشت فيها دارا بعد دار.. فهذا هو الجامع الكبير «جامع الهاشمى»، بمئذنته ذات الطراز الرشيدى، وهذه «مقابر أبى الفتح» التى كانت مثوى أهل جدتى لأبى، أى شادى الحداد، فيما كان آل الجمال يدفنون سالفا عن سالف لمئات السنين فى مقابر أبى العبد، ثم ومنذ ثلاثة عقود تقريبا بنى عمى إبراهيم مدفنا لفرعنا فى أبى الفتح، وفى المدفن أربعة مقابر لأسر الذكور الأربعة أبى عبد الرحمن وأعمامى عبد الجليل ومحمد وإبراهيم، الذى أصر على أن ينزل إلى جوف المقبرة بنفسه أثناء بنائها ليتأكد أن السقف مرتفع بما فيه الكفاية: «حتى إذا دخلوا يا ابن أخويا وقومونى راسى ما تخبطش فى السقف».. هكذا شرح لى السبب من نزوله ومعاينته!
والمقابر عندنا كما فى معظم بر مصر، إن لم يكن كلها على ما أعتقد، يدخلها الميت برأسه محمولا على أذرع بعض أقربائه أو متطوعين معروف عنهم هواية «لحد» الأموات، ويوسد داخل المقبرة لتكون قدماه باتجاه الشرق بميل للجنوب، ورأسه باتجاه الغرب حتى إذا ما أنهض للحساب الأولى كان وجهه مواجها لقبلة الصلاة.
ولذلك ربما جاء وصف «عيناه مغربتان» للمريض الذى يحتضر، وكذلك وصف تعديل وضع المحتضر المسجى على فراشه إلى أنهم «غربوه»، أى وضعوا رأسه غربا ليكون وجهه للقبلة!.. وفى ظنى أن حكاية الغرب هذه أقدم من ذلك بكثير، وتعود إلى مصر القديمة عندما كان دفن الأموات يتم فى البر الغربى للنيل، حيث يحمل ذلك إشارة لغروب الشمس أى موتها تمهيدا لبعثها من الشرق مجددا، وربما كان الغرب فيه ابتعاد مكانى عن تأثير رطوبة التربة المتأثرة بالنهر وبالأمطار، مما يساعد على الحفاظ على بقاء الجسد سليما مع التحنيط.
شطحت قليلا، وأعود إلى السفر عبر جوجل بواسطة المحمول.. فأذهب لزيارة أبى وأمى وبقية أهلى فى الجبانة، ثم أقرر أن أسرح للغيط فأمضى بحيث تكون مقابر أبى العبد على يمينى، وبعدها بحوالى مائتى متر أصل إلى ترعة السيالة، حيث مكان «الموردة» القديمة وبجوارها القنطرة المؤدية إلى السكة الوسطانية، ومن هناك أنعطف يسارا على الفرع «ترعة صغيرة» لأصل إلى غيطنا فى حوض «عقر القنطرة»!
كانت «الموردة» التى يرد الناس الماء فيها، مكانا فريدا، فهى فى الصباح المبكر قبل الشمس، وفى المساء المغبش بين المغرب والعشاء، ملتقى حرائر النساء من البنات والسيدات اللاتى يجب ألا يظهرن أمام الأغراب، يتجهن متسترات بالظلام النسبى حاملات الزلع الفخارية ليملأن المياه، ولأنهن حرائر فإنهن لا يسمحن بأن يساعدهن ذكر «رجل أو شاب» فى وضع الزلعة على «الحواية» لفافة من قماش أو قش أرز يطوينها باستدارة لتحمى الرأس من ثقل الزلعة الممتلئة بالمياه، لأن كثيرا من الذكور الملاعين يعمدون إلى أن يقترب جسده من جسم الأنثى، وهو يحمل الزلعة ويرفعها ليضعها على رأسها!!.. ولكن هذا الاحتياط لا يمنع المتربصين من المراهقين والبالغين، وبعض كبار الرجال من أن يتلكؤوا بالقرب من الموردة ليراقبوا حركة النساء وهن ينحنين لملء الزلعة، ثم وهن رافعات الرأس مفرودات العنق، والزلعة معوجة قليلا «45 درجة»، فيما الجسد ممشوق والصدور ناهدة، والبطون ضامرة، والمؤخرات باستدارتها تهتز قليلا، فيما الذراعان يتحركان أماما وخلفا بكفوف مفرودة تتراوح حركتها فى نصف دائرة فتلمح بياض باطنها ونعومة ظاهرها، إذا ما تربصت ودققت النظر!!.. ناهيك عن التصاق الملابس بالجسد إذا ما انسكب الماء.
وفى المسافة الزمنية بين غبشة الصبح المبكر ومطلع الليل تمتلئ الموردة ببنات وسيدات من العموم يغسلن الأوانى وأحيانا الملابس، وبالقرب منهن قد تجد أحدهم وقد نزل نصف عارٍ ليستحم مع حماره أو حصانه أو جاموسته يغسل بدنها بلفافة قش أرز وبالمرة يغسل بدنه!
غير أن الموردة لم تكن ذلك، ولذلك وفقط، وإنما كانت وخاصة فى بعض ليالى الشتاء القارس المظلمة وبعض ليالى الصيف المقمرة مكانا يحدد حركة «الجنيات» «إناث العفاريت»، إذ لا تعدم من يغلظ الأيمان حالفا بالله ثلاثا وبالطلاق ثلاثا إنه كان عائدا من الغيط قرب الفجر والدنيا كحل وإذا بالحمارة التى يركبها تقف فجأة وترفع أذنيها وترفض أن تتقدم خطوة واحدة وجسدها كله يرتعش، وهو الآخر يشعر بقشعريرة خوف مرعب وشعر رأسه يقف رغما عنه، ثم إذا به يسمع صوت جسم يلقى بنفسه فى الماء من على القنطرة قرب الموردة، وأن طراطيش المياه أصابت هدومه!.. ولا تعدم آخر يقسم الأيمان نفسها والطلاق ذاته مبديا استعداده للإتيان بالمصحف وبالبخارى للحلف عليهما إنه وهو عائد بعد نص الليل من السكة الوسطانية لمحها من بعيد وهى جالسة على حافة القنطرة قرب الموردة ورجلاها مدلدلتان فى المياه، وهى تسرح شعرها الذهبى الطويل ووجها يشع نورا، والذى عرفه أنها جنية هو أن عينيها كانتا مفتوحتين بالطول، وأن البهايم نفرت وسمع زفيرها وهى تضرب بأرجلها فى الأرض ولا تريد أن تتقدم!
ولا أخفى أننى فى عمر السادسة عشرة كنت أتعمد الوقوف أمام زاوية دارنا الكبيرة، التى تقع فى مدخل الشارع الواسع الذى تتفرع منه عدة حوارى، ألبس الجلابية وأضع يدى فى فتحة الجيب الطويل الذى هو «السيالة»، مثلما الترعة اسمها أيضا «السيالة»، ولا أدرى من أين جاء التطابق لأرقب العائدات حاملات الزلع، وعلى رأسهن وفى مقدمتهن رائعتان من روائع الإبداع الإلهى فى عالم الأنثى.
كانتا شقيقتين جميلتين، ولكن إحداهما كانت بارعة الجمال ظللت أتذكرها كلما كنت أشاهد الفنانة «نورا» على الشاشة أو على الطبيعة، بعدما أخذت «شلوتا» لأعلى وأصبحت ممن لديهم اشتراك فى حمام سباحة هيلتون النيل فى النصف الثانى من الثمانينيات
مازلت أذكر الفتاتين.. بل قل «النتايتين» باسميهما، وأذكر ما نسج حولهما من أساطير غرام أحد الكبار المحترمين مقاما وعائلة بهما، ولن أفعل مثلما فعل سعد الدين إبراهيم فى مذكراته فأذكر تفاصيل أكثر من ذلك، رغم أن الزمن الذى انقضى على تلك المشاهد يتجاوز نصف قرن!
وعلى شاشة المحمول، يعبر بى جوجل الموردة والقنطرة إلى السكة الوسطانية، حيث على يمينى قدام شوية مفرق طرق يمينه يؤدى إلى موقع «الكباس الكبير»، الذى كنا نتشارك فيه مع عائلات أخرى ليرفع لحقولنا الماء وهو يقع فى أرض تسمى أرض البرلسى، ويؤدى شماله إلى حوضنا «عقر القنطرة»، أى الملاصق لقنطرة البرلسى التالية على القنطرة الكبيرة المجاورة للموردة!
وكان بجوار «الكباس»، وهو ساقية ضخمة تدور فيها بهيمتان معا لثقل علبتها التى تدور لتحمل الماء من البئر العميقة المتصلة بترعة السيالة، شجرة جميز هائلة، وتتناثر على فرع المياه الممتد من الكباس لبقية الحقول أشجار الصفصاف بنوعيه «شعر البنت» و«العادى» والتوت الذكر «الضكر» والأنثى «النتاية»، حيث الأخيرة هى التى تثمر فحول التوت الأحمر أو الأسود أو البنى، والسنط والأثل والسرو والخروع والكافور والجازورين، وأحيانا كانت توجد أشجار دقن الباشا «اللبخ» وأشجار النبق.. وتتناثر أشجار النخيل!
وإلى الآن أحلم بأن أقتنى منزلا فيه ساحة حديقة تكفى لجميزة وتوتة وصفصافة شعر بنت وسنطة وسروة وشجرة دقن باشا تزهر زهورا لها أهداب طويلة ناعمة، لونها أصفر فاتح، وتفوح منها رائحة عطرية فواحة لم تشمها أنفى فى أى مكان ولا من أى بارفان.. وكفاية كده.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
شكرا لهذا الوصف الجميل وهذه المعلومات الزراعيه العظيمه - واضح من وصفك الشقاوه وعشق اكتشاف الجمال
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
اعتقد جوجل لا يشفى الحنين للريف المصرى بل يزيده اشتعالا وشوقا خاصة عندما نتذكر حاملات الزلع
بدون