وأخيرا.. وبعد عدة تأجيلات لظروف مختلفة، يرى قانون تقسيم الدوائر الانتخابية النور، وهو الخطوة الأولى نحو الاستحقاق الثالث فى خارطة طريق الشعب نحو مصر الجديدة. صدر القانون ولكنه يحتوى بين ثناياه العديد من المواد التى تفرد بها دون قوانين العالم كله فيما يتعلق بتنظيم الدوائر الانتخابية وآليات الترشح والانتخاب والفوز. الغريب أنه من القراءة الأولى للقانون سنتمكن من استبيان أنه لا رؤية ولا بعد نظر ولا سياسة واضحة ولا حتى إدارة رشيدة لدى واضعى القانون، فالقانون الذى يقسم الدوائر بحسب حجم الشوارع والحارات وأعداد ساكنيها، هو بكل تأكيد سبق مصرى لم يشهد العالم مثله من قبل، وعند توسيع الرؤية ولسنا بحاجة للنظر من بعيد، فسنجد فى الصورة عناصر النظام القديم وعلى رأسهم رئيس النظام نفسه الرئيس المخلوع مبارك، ومن قبله أحمد عز الذى أطلق تصريحين غاية فى الاستفزاز، أولهما عن نيته تكوين تحالف انتخابى، وثانيهما تنبؤاته برئاسة جمال مبارك لمصر فى انتخابات 2018، ولو كان هذا الرجل ومن يمثلهم من خلفه يريدون ويتعمدون استفزاز الشعب المصرى فلن يقول أكثر من ذلك، وتلك التصرفات التى جعلت الرئيس عبد الفتاح السيسى يعبر أكثر من مرة عن احترامه للشعب، خاصة الشباب منه، وتقديره للثورة الشعبية فى 25 يناير حتى وصل الأمر إلى تجريم إهانتها، كما أكد فى أكثر من مناسبة أنه لا عودة لما قبل يناير ولا وجود للفلول فى النظام القادم.
وصف مصر بالأمريكانى
وفيما يشبه قانون تقسيم دوائر مجلس النواب أحد ذراعى الكونجرس الأمريكى، والذى يتمثل فيه من كل ولاية عدد من الأعضاء بناء على معطيات الثروة لهذه الولاية، وبالتالى حجم مساهمتها فى الموازنة الفيدرالية، فنجد ولاية يمثلها عشرات الأعضاء، وأخرى يمثلها عضوان فقط، جاء قانون تقسيم الدوائر الانتخابية المصرية أيضاء ويحمل فى طياته تفاوتا فى عدد الأعضاء عن كل محافظة، ولكن المعطيات هنا وفق عدد السكان، ولكن الفرق بين المجلسين الأمريكى والمصرى هو أن الأول يختص فى المقام الأول بمناقشة وإقرار الموازنة الفيدرالية الأمريكية، وهو مبرر قوى لتفاوت توزيع المقاعد بين الولايات، فولاية مثل أوهايو لا يمكن بأى شكل من الأشكال أن تتساوى فى حجم المساهمة فى الموازنة مع ولاية مثل كاليفورنيا، أما مجلس النواب المصرى فسوف يناقش ويصدر قوانين سوف تنطبق على الجميع، وسوف يتأثر بها ساكن القاهرة ذات الـ48 مقعدا تماما مثل ما سيتأثر بها ساكن جنوب سيناء التى نصيبها 3 مقاعد فقط. وقد شهد القانون آليات جديدة لم تحدث فى التاريخ، سواء فى مصر أو فى أى دولة أخرى، فقد تم توزيع المقاعد وفق عدد السكان، فنتج عنه 77 دائرة سوف تنتخب مقعدا واحدا، و119 دائرة سوف تنتخب مقعدين، و35 دائرة سوف تنتخب 3 مقاعد، وهو ما يمكن أن يكون سببا كافيا لإشعال الصراع الأهلى، الأمر الذى أثار الكثير من الأزمات والتخوفات، خاصة بعض المحافظات مثل محافظة قنا التى تحظى بوضع ديموغرافى فريد يميزها عن جميع محافظات مصر، فالمحافظة التى يسكنها قبائل الهوارة والقبائل العربية والأشراف والأقباط مشكلين معا تناغما ديموغرافيا يشكل ثراء من نوع خاص للمحافظة الصعيدية.
وعلى الرغم من الوئام بين المكون السكانى فى المحافظة فإنه ونتيجة للعصبيات التى يتميز بها المجتمع الصعيدى بشكل عام، فيحدث بعض الشد والجذب بين مكونات المحافظة السكانية خاصة بين العرب والهوارة، وكانت المقاعد الانتخابية أحد أهم الأسباب التى تعكر صفو التعايش السلمى بين أبناء المحافظة.
شهد شهر أكتوبر الماضى العديد من المناوشات بين أبناء قبائل العرب وأبناء قبائل الهوارة خاصة فى نجع عبد القادر بمركز دشنا نتج عنها سقوط قتيل على الأقل وعشرات المصابين، وتمثل تلك المناوشات سلسلة من المناوشات التى طفت على السطح بعد ثورة يناير نتيجة لغياب الأمن وتغير المعادلات التى تضمن مواءمة الأوضاع بين أبناء المحافظة، حيث إن حالة التحفز بين أبناء العرب وأبناء الهوارة بدأت بقوة منذ تقسيم دوائر 1957 وحتى انتخابات عام 1995 التى جعلت لمركز نجع حمادى مقعدين، ولدائرة الرئيسية مقعدين ليصبح عدد المقاعد 4 مقاعد برلمانية موزعة بالتساوى بين أبناء العرب وأبناء الهوارة, والذى نتج عنه رفض مكبوت مستتر بالقبضة الأمنية لأبناء العرب الذين يشكلون %75 من سكان المحافظة. وفى حوار مع أحد أبناء القبائل العربية ذوى المكانة الكبيرة ، أكد أن التقسيم الجديد لدائرتى «نجع حمادى والرئيسية» والذى يشاع عنه أن الدائرتين حظيتا بثلاثة مقاعد فقط من الممكن أن يتولد عنه اقتتال بين أبناء العرب والهوارة نتيجة الكراهية التى سوف تتسرب بلا شك للطرف الذى سيحصل على المقعد الواحد، وطالب بأن يظل للدائرتين 4 مقاعد كما استقر الأمر فى السنوات الماضية، أو تقسم الأربعة المقاعد على محافظة قنا بالكامل، حيث أكد أن نتيجة الانتخابات فى الحالة الأخيرة ستؤدى لفوز القبائل العربية بمقعدين، وللهوارة موزع المقاعد الثلاثة بين قبائل العرب والعبابدة والأدرسة، أما المقعد الرابع فمن نصيب الأقباط، وذلك استنادا للتوزيع الديموغرافى للمحافظة، انتهى كلام الرجل وقد فتح فى ذهنى إشكالية أخرى وهى التصويت بحسب الانتماء العرقى أو الدينى وهى نار أخرى تحت رماد.
من قبلى لبحرى يا قلبى لا تحزن
وليس الصعيد فقط هو ما سوف يواجه المتاعب فى ظل هذا التقسيم للدوائر الانتخابية، ففى محافظة الغربية التى كانت تضم بين دوائرها دائرتى قطور وبسيون، اللتين يفصل بينهما مسافة لا تقل عن 25 كيلومترا، قد ضمهما القانون الجديد فى دائرة واحدة، فهل يعقل أن يمثل دائرة بمثل هذا الحجم عضوان فقط على الرغم من اختلاف الطبيعة السكانية بين محافظات الجنوب والشمال والتى نحمد الله أنها أخف حدة ولا تميل إلى العنف فى الشمال، ولكن وفق ذلك التقسيم من المنتظر أن تشهد الانتخابات سلبية فى المشاركة من المواطنين، فهل أصاب مجلس الوزراء بتقسيم الدوائر وفقا لعدد السكان؟ واليوم وبعد صدور قانون تقسيم الدوائر الانتخابية وحصول مركز نجع حمادى على 3 مقاعد فقط بدلا من أربعة مقاعد، أعتقد أننا أمام مشهد خطير أرجو من الله أن تجد الدولة مخرجا له قبل أن يتفاقم الوضع.
هل استمع مجلس الوزراء لمقترحات الأحزاب؟
ربما تواجه الأحزاب المصرية الكثير من الاتهامات، أهمها السلبية والعزلة عن الواقع المجتمعى، إلا أنه فى حالة قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، فإن الأحزاب هى فاعل أساسى فى هذا الحدث، وكان يجب أن تكون شريكا رئيسيا فى وضع هذا القانون على الأقل بإتخاذ ملاحظاتها ومقترحاتها محمل الجد. وفى هذا الصدد وفى رد فعل سبق غيره من الحزبيين المصريين، قال الدكتور عمرو الشوبكى أمين عام تحالف الوفد المصرى إن مجلس الوزراء لم يسمع للأحزاب والقوى السياسية وأصر على اتخاذ القرار من دون مشاركة، لكن للأسف لا أحد يسمع للآخر، مؤكدًا أن التقسيم الجديد للدوائر الانتخابية سيصعب على المرشحين خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، نظرًا لاتساع حجم الدائرة.
مشكلة القوائم والفردى
نتيجة لقانونى انتخاب مجلس النواب وقانون توزيع الدوائر الانتخابية، فإن الأول سوف ينتج عنه انتخاب %80 من البرلمان القادم بنظام الفردى ، و%20 فقط بنظام القوائم المطلقة ، وجاء قانون تقسيم الدوائر الانتخابية ليعزز مخاوف الأحزاب السياسية المصرية، فنظرا لتقسيم الدوائر سيصعب على الأحزاب أن تغطى جميع الدوائر الانتخابية، مما يفتح شهية «الفلول» و«المتأسلمين» للسيطرة على مقاعد الفردى المقدرة بـ80% من البرلمان، كما أن نظام القائمة المطلقة هو نظام غير معمول به فى أى نظام ديمقراطى حقيقى، فهذا النظام يهدر أصوات الناخبين الذين سوف يصوتون لصالح القوائم التى لن تستطيع أن تحقق الأغلبية المطلقة، مما يمس بمساواة الصوت المصرى.