نشر الكونجرس الأمريكى تقريره الخطير عن التعذيب الذى مارسته أجهزة الأمن الأمريكية تجاه الذين اتهموا فى قضايا الإرهاب عقب أحداث 11 سبتمبر. ويقع التقرير مفصلًا فى عدة آلاف ورقة، واختصر فى 500 صفحة حوت تفاصيل دقيقة لأسماء الذين عذبوا، ووسائل تعذيبهم، والبلاد التى ساعدت فى تعذيبهم.. ويؤسفنى أن مصر فى عهد مبارك من هذه الدول مع بولندا، ورومانيا، وباكستان، ودول أخرى كثيرة. وقد طال التعذيب كل المتهمين بدرجة أو بأخرى، وطال البرىء والمذنب، وكلنا يعلم أن %80 من معتقلى جوانتانامو قد أفرج عنهم بعد ذلك دون توجيه تهمة. ومن أهم الوسائل التى ذكرها التقرير فى تعذيب المشتبه بهم أسلوب «الإيهام بالغرق»، ويتم بوضع قماش على الوجه يغطى الفم والأنف ثم يتم إغراق وجهه بالمياه بكمية هائلة بشكل يمنعه من التنفس وكأنه يغرق ويعيش لحظات الحياة الأخيرة. وقد تعرض خالد شيخ محمد، صاحب فكرة تفجير البرجين بالطائرات، للتعذيب بهذه الوسيلة 183 مرة، وهو الذى اقترح على بن لادن فكرة 11 سبتمبر، وساعده فى تنفيذها. أما «أبوزبيدة» وهو سعودى الجنسية فعُذب بهذه الطريقة 83 مرة، أما عبدالرحمن الناشيرى، وهو سعودى الجنسية والمخطط لتفجير حاملة الطائرات «كول» عام 2000، فكانت الـ «C.I.A» تعذبه بالحفر فى صدغه بمثقاب كهربائى، وتطلق الرصاص الفشنك بجوار رأسه وأذنه، فضلًا على الضرب والسباب والتهديد بالاغتصاب الجنسى. أما على الفاخرى، وهو ليبى الجنسية، فقد نقل إلى مصر عام 2001، واستخدمت أمريكا معه التعذيب بـ«الإيهام بالدفن»، حيث يوضع داخل صندوق مغلق، وتقيد حركته تمامًا، بحيث يتنفس بصعوبة، ويجرح فى قدمه فيظل ينزف حتى يتصور أنه فى طريقه للموت، فيعترف بسهولة. أما على عبدالعزيز على، شقيق خالد شيخ محمد، فقد تم تعذيبه بالإغراق فى الماء المثلج، فضلًا على الضرب بالهراوات، والوقوف لساعات طويلة أمام الحائط مع ضرب رأسه بعنف فى الحائط. أما ماجد خان فقد عُذب بطريقة التغذية الشرجية العكسية عبر أنبوب فى الشرج.. كل هذه الوسائل وغيرها اعتمدتها الحكومة الأمريكية فى عهد بوش الابن، وحتى لا نطيل فى سرد التقرير بتفاصيله الكثيرة يمكننا فهم ما وراء التقرير فى هذه النقاط المختصرة:
1 - «التعذيب قديم قدم الزمان».. هذه هى الخلاصة الأولى التى وصلت إليها من قراءتى للتاريخ، وكان التعذيب قديمًا يهدف أساسًا لتغيير الإنسان لعقيدته الدينية، أو اتجاهاته السياسية. وقد ذكر التعذيب فى قصة أصحاب الأخدود التى حكى الرسول فيها أن الملك عذب الراهب حتى دل على الغلام، ولم يعب الرسول [ على الراهب لأنه وقع فيما يسميه الفقهاء «الإكراه الملجئ» الذى يسلب الإرادة، ويلغى المساءلة الشرعية والقانونية.
2 - كل الدول تعذب وتخرق كل القوانين إذا تعرض أمنها القومى للخطر، أو تعرض حكمها أو حكامها لتهديد جدى، لكن يختلف التعذيب من بلد لآخر، ومن وقت لآخر فى كل بلد حسب الظروف السياسية والدولية والأمنية المحيطة بكل منها، ولا تستثنى من هذه القاعدة دولة، خاصة تلك التى لها خصوم وأعداء أو صراعات سياسية فى الداخل والخارج.
3 - كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتباهى دومًا بأنها دولة المؤسسات ودولة القانون، لكن الجنون الذى أصابها عقب أحداث 11 سبتمبر جعلها تكفر بكل هذه المعانى وتلفظها، وتتصرف فى مثل هذه اللحظات بعيدًا عن كل القيم والقوانين، ضاربة بها عرض الحائط، لتكون أقرب إلى شريعة الغاب، فأطلقت يد المحققين للتعذيب، وذلك للتعجيل بالوصول إلى زعيمى القاعدة أسامة بن لادن، وأيمن الظواهرى، خاصة بعد تيقن هروبهما من الأمريكيين فى «تورا بورا»، وتأكد هروبهما إلى باكستان، فكان الحصول على معلومات عن «القاعدة» وعنهما أهم من كل حقوق الإنسان، ومن كل قيم دولة المؤسسات، وهذا حدث فى أمريكا من قبل بعد قصف الطيران اليابانى ميناء بيرل هاربر الأمريكى العسكرى وتدميره، فإذا بالإدارة الأمريكية يجن جنونها وتقبض على أكثر اليابانيين الموجودين فى أمريكا، وتعذب بعضهم، وتقصف هيروشيما ونجازاكى بالقنابل الذرية التى اخترعتها حديثًا، ولولا استسلام الإمبراطور لكانت أكملت على كل مدن اليابان.
4 - كنا نعرف قديمًا ما يسمى «الحرب بالوكالة»، أما «التعذيب بالوكالة» فهو اختراع أمريكى جديد، وذلك بعد أن وجدت أن معظم المتهمين عرب لا تحسن التفاهم معهم، واستخراج المعلومات منهم، فترسلهم إلى بعض الدول العربية لتعذيبهم ثم إعادة إرسالهم ومعهم CD التحقيق، وكأن المتهم عبارة عن «طرد بريدى» يرسل ليعذب ثم يعاد مرة أخرى. وقد لعبت المطارات الألمانية الدور الأكبر فى توزيع المتهمين للتعذيب بالوكالة على دول مثل مصر، والأردن، ورومانيا، وبولندا، وباكستان.
5 - الدول تشبه الإنسان حينما تكذب، بل إنها أكثر كذبًا من الإنسان العادى، ولا توجد دولة فى العالم لا تمارس الكذب، فها هى أمريكا كذبت على العالم كله حول مبررات غزو العراق دون اعتذار، أو تعويض لشعب العراق. وكلما كثرت مصالح الدول ومشاكلها وأسرارها وتدخلها فى شؤون الدول الأخرى، أو انتهاكها للقانون، زاد كذبها.. والدول لا يهمها الكذب لأنها ببساطة تتعود عليه، وهى تعشق أن تكون كاذبة وقوية أكثر من كونها صادقة وضعيفة، لذلك توعد رسول الله [ بالنار ثلاثة، منهم «ملك كذاب» أى حاكم كذاب، لأن مبررات الكذب تنتفى عنده.
6 - كشف التقرير عن بدعة أمريكية جديدة، هى «خصخصة خدمات التعذيب» أو «بزنسة التعذيب»، والجمهوريون عمومًا يعشقون البيزنس فى البترول وفى تجارة السلاح وفى الأدوية وغيرها، لكن الجديد الذى لم يعرفه العالم، وكشفه التقرير أن إدارة الرئيس بوش الابن حصلت على الأيزو فى خدمات «خصخصة التعذيب»، إذ إن التقرير أشار إلى استعانة الإدارة الأمريكية والمخابرات الأمريكية بشركات أمن خاصة، منها شركة أسسها اثنان من العلماء والأساتذة فى علم النفس، وهذه الشركة هى التى طورت الأساليب التى استخدمت فى التعذيب، وحصلت هذه الشركة مقابل هذه الخدمات على 80 مليون دولار، وهذه أول سابقة فى العالم كله تستعين فيها حكومات ومخابرات دول بشركات أمنية خاصة فى أمور دقيقة وحساسة تخص الأمن القومى، وقد تطور عالم البيزنس الخاص فى شؤون الأمن والعسكرية، خاصة بعد احتلال العراق وأفغانستان، ولعبت هذه الشركات أدوارًا قذرة فى تعذيب وقتل العراقيين والأفغان الذين تريد أمريكا التخلص منهم أو تعذيبهم، وقامت بممارسات مشينة شاركها فيها جنود من الجيش الأمريكى، ولعل أخطر هذه الممارسات هى المذبحة التى قامت بها شركة «بلاك ووتر» الأمريكية الأمنية ضد المدنيين العزل فى العراق 2007. ومنذ بداية 11 سبتمبر وحتى الآن لم تصبح شركات الأمن الخاصة حكرًا على أمريكا وأوروبا، لكنها فى كل مكان، وأعتقد أنه سيزيد دورها فى الشرق الأوسط بعد ثورات الربيع العربى التى تحولت فى أكثر البلاد إلى خريف ورعد وضياع للأمن وشيوع للخوف، وضياع هيبة الدول، وانتشار السلاح.
7 - يؤسفنى ويؤسف كل مصرى أن مصر ذكرت فى التقرير قرابة 157 مرة، واستقبلت من 60 إلى 70 حالة «تعذيب ديليفرى» أو «تعذيب بالوكالة»، وقد أقر د. نظيف فى عهده بذلك، فى حين نفاه الجميع، وهذا أساء ويسىء لمصر التى حولها مبارك إلى خادم لأمريكا ليتربع هو وابنه على عرش مصر أطول فترة ممكنة بإساءة استغلال سلطته، وليبيع كرامة مصر بثمن بخس، دراهم معدودة، وملك زائل.
8 - هذا التقرير يعد درسًا لكل الدول وحكوماتها التى ظنت أن أفعالها ستكون طى الكتمان، فما خفى من أساليب السياسة القذرة سيظهر لا محالة، وأن كل الصحائف ستقرأ فى الدنيا قبل الآخرة، فإن لم يعاقب صاحبها فى الدنيا فستكون عاقبتها خسرًا فى الآخرة.
9 - التعذيب الأمريكى له سجل حافل بالمخازى، وكله لغير الأمريكيين، وما حدث فى سجن «أبوغريب» ليس ببعيد، حيث اغتصب الجنود الأمريكان - زاعمى صناع وموزعى الحضارة وناشرى الديمقراطية - السجينات العراقيات، وأجبروا السجناء العراقيين- ومعظمهم من السنة- على ممارسة أفعال مخلة، والقيام بتصويرهم فى هذه الأوضاع وهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم. وقد بدأ التدريب الأمريكى للضباط على الاستجواب والتعذيب فى بنما 1963، وأصدرت المدرسة العسكرية هناك كتابًا عن طرق التعذيب فى الاستجوابات، وتم تدريب قرابة 60 ألف ضابط على هذا الأمر فى الخمسينيات والستينيات، أيام الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى، وحلف وارسو، وكان اسم الكتاب «كوبارك لتعليم فنون التعذيب»، وكان مزودًا برسوم تفصيلية، والمهم لدى أمريكا أن يكون التعذيب لغير الأمريكيين وخارج أراضى الولايات المتحدة فى الغالب الأعم.
10 - يتصور البعض أن تقرير الكونجرس الأمريكى عن التعذيب ما هو إلا حلقة فى سلسلة الحرب الانتخابية بين الديمقراطيين والجمهوريين، ولكن هذا تسطيح للأمر، ونظرة مقصورة للتقرير، فالحقيقة أن التقرير استغرق إنجازه 5 سنوات كاملة، وهو نموذج يحتذى به فى تطهير مؤسسات الدولة بعضها البعض، وتقويمها وتسديدها ومراجعتها ومحاسبتها ونقدها مهما كانت قوة المؤسسة التى ستحاسب وسريتها وعنفوانها، وهذا يبين أهمية البرلمان من جهة، وأهمية استقلاليته من جهة، واعتداده بنفسه من جهة ثالثة، وألا يكون صادمًا مع الحكومة، ولا ظلًا أو تابعًا ذليلًا لها.
11 - معظم الدول كالإنسان اللئيم الماكر الذى يلتف حول القوانين يريد الهروب منها، والتحايل عليها، ومعظمها يفعل ذلك، لكن بدرجات تختلف من مكان لآخر بحسب حريات الصحافة والإعلام والديمقراطية وفعاليات مؤسسات المحاسبة. وقد التفت حكومة بوش الابن على القانون الأمريكى الذى يحظر التعذيب على الأراضى الأمريكية، فقالت: «بسيطة نعذبهم فى رومانيا وبولندا ومصر والأردن وباكستان وأفغانستان» من دول العالم الثالث.
12 - الفرق بين عالمنا الثالث وأمريكا أن هناك صحافة حرة يمكن أن تطهر الحكم والحكومة من آثامها، وكونجرس لا يبيع نفسه للحكومة بدراهم معدودة ووظائف للأقارب.
13 - يبين التقرير حقيقة مهمة، هى أن الحفاظ على الأمن القومى لا يلزم أبدًا انتهاك حريات الناس أو كرامتهم أو الإقرار بتعذيبهم أو انتهاك حرمة أجسادهم وأعراضهم. صحيح أن التوازن بين متطلبات الأمن القومى والحريات العامة صعب وشاق، ويحتاج إلى مؤسسات عريقة ذات دربة وحنكة وسياسة وحزم، كما يحتاج لشعب عريق يعرف واجباته كما يعرف حقوقه، ويصعب التوازن خاصة فى أثناء الأزمات الكبرى والفتن الشديدة، لكن واجب الحكام ومؤسسات الدولة دومًا الحفاظ على الاثنين معًا، وعدم إهدار أحدهما للحفاظ على الآخر، وهذا هو التحدى الحقيقى أمام الدولة ومؤسساتها.