قابلته هذه المرة على المقهى، يرتدى بالطو من الصوف، ويلتفح بملحفة جميلة من الصوف أيضًا، ويضع على رأسه كابًا من الصوف. كنت أنا المتجه إليه هذه المرة، ولم يكن هو الذى جاء ويرانى.. كان منظره لافتًا وسط الجالسين الذين لا يرتدى معظمهم غير سترة خفيفة فوق القميص.. قلت له وأنا أنظر للصحف القديمة التى لا تفارقه ويضعها جواره كالعادة:
قبل أن أجلس هل أنت مصاب بأنفلونزا؟
ابتسم وقال: لا تخف، أنا سليم وزى الفل.
جلست ضاحكًا وقلت: طيب إيه حكاية البالطو والكوفيه دى والبيريه كمان؟
نحن فى الشتاء.. ابتسمت وقلت: الشتاء! الحرارة حتى الآن تقترب من الثلاثين يا رجل. . هذه هى المشكلة، ندخل على يناير ولم نرَ مطرًا ولا بردًا.. قلت: فلأعتبر أن الشتاء قد بدأ ربما يأتى.. ضحكت بصوت مرتفع، وراح هو يضحك بلا صوت، ثم قال: هل اعتديت على حرية أحد؟
لم أفهم السؤال لكننى أجبت: لا طبعًا.
وسكتنا قليلاً ثم قال: بصراحة قلت أرتدى ملابس شتوية قبل أن تصدر أوامر بارتدائها.. لم أرد ونظرت إليه أكتم ضحكتى، فقال: أو يصدر قرار يحرم الملابس الصيفية حين يبدأ الشتاء رسميًا حسب التقويم الجريجورى.. ضحكت فقال: أليس هذا ما يحدث فى بلادنا؟
ماذا تقول يارجل، ما للحكومة والملابس؟ إنت حتعمل زى الإخوان والسلفيين.. أهى الأفكار زى الملابس، كل واحد حر فى لبس الفكرة اللى هو عايزها، إيه لازمته بأه قانون حيصدر بتجريم العيب فى ثورتى يناير ويونيو.
خلاص، شكله مش حيصدر، أقلع البالطو بأه الدنيا حر.. مش حاقلع، أنا خايف بجد يكون عدم ارتداء ملابس شتوية بعد أن يبدأ الشتاء رسميًا عدم اعتراف بنظام الكون، وبالتالى بمن خلق الكون.. نظرت إليه والدهشة تزداد، هو لا يسخر لكنه يتحدث جادًا جدًا، قال: هل أنت متابع الحوارات فى التليفزيون عن الأزهر والتجديد الدينى.. أنا الدكاترة نصحونى أريح عينيّا شهرين على الأقل من القراءة والمشاهدة.. كل رجال الأزهر أجمعوا أنه لا يناقش الأزهر إلا أهل الأزهر باعتبارهم أهل العلم، رغم أن العلم متعلمينه ولم يولد أحد به.. يمكن علشان فعلاً ناس بتناقش قضايا صعبة.. مافيش حاجة صعبة على العقل البشرى، أى حد ممكن يفكر وتقول له غلط أو صح وخلاص، لكن ماتمنعوش من التفكير لأنه حيفكر غصب عنك، وساعتها ممكن يفكر غلط.. طيب سيبنا من الأزهر علشان ده موضوع كبير، إيه تانى مخليك تلبس هدوم شتوية فى الجو الحار ده.
سمعت عن قهوة الملحدين؟
قلت ضاحكًا: تانى! ما قلنا نبعد عن السيرة دى!
يا أخى الإلحاد مسألة فلسفية صعبة، واللى بنسمع عليه ده زهق، لكن باستغرب إزاى قهوة أصلًا قفلها صاحبها قبل الخبر بشهر لأن كان فيها شباب فرق فنية وبيعملوا دوشة والسكان اشتكوا تبقى اسمها قهوة الملحدين!.. قلت: أنا ماعنديش معلومات عن الموضوع.. طيب لو هما ملحدين حيقعدوا فى مكان واحد والناس تعرف إنهم ملحدين؟
قصدك إيه؟
قصدى أكل عيش للمسؤولين، واحد مسؤول قال أعمل منظر علشان الإخوان المسلمين مايقولوش إن إحنا دولة كفار.. مع إنهم كفرونا ياجدع.. قلت ذلك وضحكت فضحك هو، وقال: طيب سمعت عن اللى اتقبض عليهم فى المترو علشان بيتكلموا إنجليزى، قال لك جواسيس.. بص، أنا ماباصدقش بسهولة اللى بتنشره الصحف على مواقعها، بس لو حصل يبقى اللى قبض عليهم عنده فوبيا ومرتبك وعايز يعمل أى حاجة تبينه شغال، بس إيه علاقة ده كله بلبسك الشتوى.. ارتبكت من كتر الكلام عن الصح والغلط فقلت أمشى جنب الحيط.
هنا ضحكت بصوت عال جدًا لفت نظر كل الجالسين فى المقهى، وقلت: يعنى حتقلع البالطو على الأقل دلوقت، أكيد تقيل عليك فى الجو ده.. لما أروح البيت.. وشرد بعيدًا بعينيه وقال: حد عارف يمكن يطلع ممنوع قلع البالطو فى الشارع.
ضحكت: فيه إيه يا عم؟
غاب عنى وشرد من جديد ثم سألنى: مضايقك البالطو؟
أنا؟ ليه؟
يعنى إذا كان مضايقك أقلعه.. لا، بس أنت صعبان عليّا.
طيب بأقول لك إيه؟
تفضل.
هما ليه بيمنعوا الناس من السفر؟
أكيد فيه قضايا عليهم.
ما أقصدش دول، أقصد فيه قرار بمنع الناس من السفر لتركيا إلا بموافقة أمنية.. علشان تركيا تقود العمل ضد النظام فى مصر.. طيب هو مش ممكن أى حد يسافر لبنان مثلاً ومن هناك يروح تركيا، هما اللى ضد النظام حيغلبوا يعنى.. إجراء تحفظى، عادى.
عادى يعنى إيه؟ الدستور بيحفظ للناس حرية التنقل، وبعدين إنت ليه متصور إنك بتمنع الجريمة قبل ما تقع، بالعكس، كده الجريمة لو حصلت حتبقى مضاعفة، المجرم مش حينسى إنه اتبهدل علشان يسافر ودفع فلوس كتير دمغات ورق.. ضحكت من جديد، قال: آه والله، إنت فاكر الحاجات دى بسيطة عند المصريين؟
على فكرة مش إحنا بس اللى عاملين كده، دول كتير.
عربية كلها، صح؟
تقريباً.
علشان كده حالهم زى الفل، مافيش أى إرهاب.
قصدك إيه؟
قصدى اللى أنت شايفه.. أنا مش شايف حاجة.
مش حاقلع اللبس الشتوى.. انطلقت أضحك فقال: مش القوانين دى اللى بتحد من الحريات قصدها تمشّى الناس جنب الحيط؟
تقريبًا.
يعنى بيحددوا مكانك؟
تقريبًا.
علشان كده أنا قلت ألبس شتوى قبل ما تصدر قوانين بتجريم المخالف للفصول الأربعة.. يعنى باحدد الزمان كمان، ياللا بالمرة قبل ماحد ذكى يقول للحكومة حددنا المكان باقى تحديد الزمان.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة