عندما تتصارع الأحزان مع الخديعة تنفطر القلوب، تتحول عظام البشر إلى صخور لشاطئ البحر، تصبح النظرات الكسيرة فى العيون سياجا لخيبة الأمل، تحمى المدينة الخرافية من هجمات الوجع المستديم، تمنع عن مدينة البطلمى كل الخطر القادم مع الريح من أعماق البحر المالح، تختلط الأسطورة ببخار الماء وعجين البشر، يطعمون به أبناءهم، فتنمو أجسادهم وأرواحهم مزيجا من الخرافة المقدسة والواقع المستكين، فتمنح أبناء آدم وحواء كل الخرافات الممكنة التى تقتات بها الأجساد والأرواح المتعبة، والموج المالح لا يوقظ النيام ولا يعيد الميتين، وعندما يقتنص الشاطئ كل الرياح الآتية من خلف خط الأفق، تبقى الألوان عصية عليه، ومع أن الألوان غير مكتملة دائما، حيث ينتهك نصاعتها بخار الماء، فإن قوس قزح يبقى مسيطرا على نهاية الأفق بألوانه الباهتة، وربما يكون ذلك بفعل أجنحة النوارس التى لا يقر لها قرار ولا يعرف أحد من أين تجىء ولا أين تذهب ولا أين تضع بيضها، غير أن العجائز هنا يقولون إن بيض النوارس مخلوطا بدم الترسة يشفى العنة عند الرجال لكنه لا يشفى العقم عند النساء، فالنساء يكفيهن دم الترسة فقط.
وبالتأكيد فإن هذا الحديث عن بيض النوارس ودم الترسة والعنة والعقم يجعلنا نرتد فى الزمن 48 سنة من الآن لنصل أول شهر يناير فى سنة 1966 وتحديدا عندما رسب بعض تلاميذ مدرسة الفاروقية - الكائنة فى شارع منشا - فى الثانوية العامة للمرة الثانية لتحل عليهم الإرادة الأبوية بطردهم من البيوت حتى لا يفسدوا بقية إخوتهم، فيلتحقون بالمدرسة البحرية لراسبى الثانوية العامة، فيتم تدريبهم مدة ستة أشهر حيث يأكلون ويتغطون فى الشتاء بالبطاطين الميرى الخشنة التى ربما تكون كالحة اللون، ويدخنون سجائر الحشيش فى دورات المياه، وبعد انتهاء فترة تدريبهم يلبسون ملابس البحارة ويجىء السماسرة البحريون ويتوسطون لهم دون مقابل للعمل كبحارة فوق سفن الشحن العملاقة والمتوسطة والصغيرة فتبحر بهم إلى موانى العالم البعيدة بعد أن تستخرج لهم إدارة المدرسة البحرية جوازات السفر، حيث يكتب لهم فى خانة المهنة «نصف بحار» وعلى ظهر السفينة يتعرف «نصف بحار» على البحار البرتغالى الذى اتضح أنه يكره سفينة الشحن «أرياس» التى ترفع على ساريتها علم البرتغال بالرغم من أنها من «بنما»، وما أن عرف البحار البرتغالى «ألبرتو ألفاريز ريجاردو» - وهكذا يحب أن ينطق اسمه - أن «نصف بحار» جاء من ميناء الإسكندرية فقد راح يحكى له كيف زار الإسكندرية الجميلة ثلاث مرات، وتحديدا منطقة «مينا البصل» وعن النساء بالملايات اللف يملأ عيونهن السحر والبخور وبقايا شبق خرافى لا ينتهى، فيتعلم «نصف بحار» من صديقه الجديد «ألبرتو ألفاريز ريجاردو» كيف يحكى عن مدينته التى عاش فيها وحدثه بطريقة مبتذلة عن تجاربه الجنسية مع نساء الكورنيش اللائى يسميهن الناس «الأرتيستات»، فعليه منذ الآن أن يتحدث عن تجاربه الجنسية باحترام، وباحترام حقيقى أيضا عن أرتيستات طريق الكورنيش بالرغم من وقوعهن فى الخطيئة، لأن الغالبية منهن يعملن فى الكباريهات المنتشرة على طول طريق الكورنيش الذى أسمته الحكومة يومها «طريق الجيش».
لكن المدينة التى بناها البطلمى على أنقاض قرية «راكودة» يمكن تقسيمها - طوليا - إلى ثلاث مناطق متوازية كما لو كانت ثلاث أفاعٍ عملاقة، بحيث تمتد الواحدة منها بطول المدينة من نقطة شروق الشمس حتى نقطة غروبها، وبذلك تكون المنطقة الأولى بطول طريق الكورنيش وعرض مائتى متر لا تزيد، حيث يحدها قضيب الترام الموازى لطريق الكورنيش، فيحصر هذه المنطقة على يساره إذا كان وجهك متجها إلى منطقة غروب الشمس خلف قلعة قايتباى الرابضة فى مكانها منذ القدم، وتكون المنطقة الثانية هى المحصورة طوليا بين قضيب الترام وشارع «أبوقير» الذى أطلقت عليه الحكومة اسم «طريق الحرية»، وعرضها يساوى ثلاثة أضعاف عرض المنطقة الأولى، وللحديث بقية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة