أنت قد تعتقد أن المصدر الرئيسى للدخل القومى الأمريكى إنما يأتى من عوائد تصدير السلاح، وهى بالفعل تدر تريليونات الدولارات، وتشغل ملايين المواطنين الأمريكيين، وقد تعتقد، ولك حق، أن تجارة الدواء قد تنافس تجارة السلاح فى صدارة العائدات الأمريكية، خاصة عندما نعرف أن دواء مثل الفياجرا فقط حقق عوائد للشركة المنتجة له أكثر من ميزانيات دول، وقد يتجاوز دواء سوفالدى لعلاج فيروس سى هذه العوائد، ولكن الحقيقة التى قد تدهش لها، كما دهشت من قبل، تأتى من الصناعات الثقافية الأمريكية، أى والله الصناعات الثقافية الأمريكية فى دولة لم يتجاوز عمرها 3 قرون بعد، تحقق للدخل الأمريكى أكثر مما تحققه تجارة السلاح، ومن تجارة الدواء، وبعض الأفلام الأمريكية تحقق مليارات للدخل القومى الأمريكى، وشخصية مثل ميكى ماوس تقدم للخزينة الأمريكية، أكثر من دخل قناة السويس، لذلك انتبهوا لخطورة حمايتها وعدلوا القانون لتمتد الحماية إلى 99 عاما.
هذا يحدث فى أمريكا التى ليس لها تاريخ ثقافى، ويحدث مثله فى الصين دولة الحضارة، وفى روسيا واليابان، ويحدث فى الدول المتحضرة إذا أتيح لك السفر إلى أى منها أن يهديك أحدهم هدية محترمة، لتجد أنها قد تكون مثلا «المتروشكا» وهى العروسة الروسية الخشبية، تعبيرا عن عظيم التقدير لشخصك المحترم، وإذا كنت عضوا فى وفد رسمى فقد تكون هدية سعادتك قطعة خزف لمورث ثقافى فى هذا البلد، هذا يحدث هناك، فماذا عن مصر «سبعة آلاف سنة حضارة، حاضنة الديانات السماوية الثلاث» ماذا عن مصر الفرعونية، اليونانية الرومانية، الإسلامية، مصر العلوية، مصر الخيديوية، مصر الحديثة؟
لا شىء، كان لدينا حتى وقت قريب 350 صناعة تراثية، تركناها تواجه وحدها مصيرها، لتنقرض كل يوم حرفة، دون أن ننتبه إلى خطورة ذلك على تجريف الهوية الثقافية الوطنية، هذا الكلام قد لا يشجع سعادتك لاستمرار قراءة المقال، ولكن الموضوع فى رأيى أمن قومى بالدرجة الأولى، وحماية الصناعات الثقافية، والموروث الثقافى المصرى، يجب أن تكون هناك إرادة سياسية لإنقاذها، ليس لأنها يمكن أن تكون مصدرا أساسيا للدخل القومى المصرى، وليس لأنها يمكن أن تكون أفضل الصناعات فى التنمية المستدامة التى يمكن أن تصل إلى أصغر قرية ونجع، وليس لأنها أيضا يمكن أن تمتص البطالة المتفشية بين الشباب، ولكن لما هو أهم، وهو الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية، وهى التى تمثل الميزة النسبية الوحيدة لهذا البلد، الحلول كثيرة ومتاحة، الأهم أن تنتبه الدولة لخطورة ذلك، وتكون هناك إرادة لتنفيذ هذه الحلول.
سعادتك عندما تسافر إلى أى بلد تأتى بأهم شىء «تذكار» أو «سوفونير» يعبر عن هذا البلد، الفيل التايلاندى، الماتروشكا الروسية، الخزف التونسى، فماذا عن الصناعات التراثية المصرية، وبماذا يمكن أن يعود السائح بتذكار من مصر؟ أتطوع بالإجابة نيابة عنك.. سوف يعود بتمثال أبو الهول بملامح صينية، لأن الورش التى تصنعه إما أغلقت أو غيرت نشاطها، ويكفيك قهرا أن تعلم أننى وأنت ندعم الاقتصاد الصينى بمليارات الدولارات، لأنهم انتبهوا للاستثمار فى الموروث الثقافى المصرى، من الفانوس إلى الخيامية، إلى السجادة اليدوى، وتركوا لنا الكلام وكثيرا من العجز.