أما المنطقة الثالثة - وهى أفقرها بالتأكيد - فهى صاحبة العرض الأكبر، حيث يبلغ خمسة أضعاف المنطقتين السابقتين، وفيها يتكاثف الفقراء واللصوص والقوادون والموظفون وعمال مصانع الأسمنت والكبريت فى وادى القمر والملاحة، فيعيشون فوق بعضهم فى شوارع ضيقة، ربما لا تستطيع أشعة الشمس الوصول إليها، غير أن برد الشتاء لا يعجز مطلقا عن اختراقها ليصل إلى عظامهم فيمرض الأطفال بالسل فى فصل الشتاء وبالعمى فى فصل الصيف إذا عجز مرهم الشيشم الأبيض فى إنقاذ عيون الصغار من الجراثيم التى تحملها رياح الخماسين، وهى منطقة محصورة فيما بين طريق الحرية وترعة المحمودية التى تصب فى البحر الكبير فى نهاية حى الدخيلة وحى المكس، فيختلط الماء العذب بالماء المالح فتعوم فيه أسماك القراميط التى تتغذى على طحالب وطفيليات طمى النيل وعند ذبحها يكون لحمها أحمر، ويطهوه الفقراء لأولادهم، أما المشايخ المتصلون بالجان وحراس مقابر الأولياء فإنهم يضعون فى بطون هذه القراميط الأحجبة التى يكتبونها للنساء العقيمات حتى يلدن وللرجال حتى يستطيعوا الإنجاب، فما أن يكتب الشيخ المبروك الحجاب للواحد منهم حتى يسرع بالحجاب إلى صياد مؤتمن فيصيد له قرموطا يحشر فى فمه الحجاب ثم يطلقه فى الماء.
وعلى الجميع منذ هذه اللحظة الحديث عن الممارسات الجنسية بالاحترام اللائق، عليكم أن تعرفوا حقيقة الماء الدافق الذى يخرج من بين الصلب والترائب، الذى يكون مصيره خلق أبنائكم، فإذا انساب الماء الدافق فى غير مكانه؛ فيكون مصيره آلاف الشياطين الذين يجوبون هذه المدينة ليلا ليداهموا الأولاد فى منامهم فتأتيهم بالنساء العاريات فيبلل الماء الدافق فراشهم، وإذا صب الماء الدافق على غير شرع الله أو أثناء حيض المرأة فإنه يكون سببا فى تكاثر ملايين الشياطين الذين يشيعون الفاحشة فى الطرقات ليلا ونهارا، إن إرادة الله لا تعلو فوقها إرادة، وإرادة الله القاهرة شاءت أن يكون كل بنى آدم هم نتيجة الممارسات الجنسية، فهكذا تحدث البحار البرتغالى «ألبرتو ألفاريز ريجاردو» القادم من «ليسباو» فى «البرتغال»، فإذا كان البشر هم مصير العلاقة الجنسية بين آدم وحواء، والموت هو مصير كل أبناء آدم وحواء، فإن الإسكندرية هى مصير الرياح.
لكن ما أروع اللحظة التى حكى لى فيها البحار البرتغالى عن الميناء الذى جاء منه وطلب منى أنا «نصف بحار» أن أحكى له عن نفسى وعن الميناء الذى جئت منه، مع أنى مجرد نصف بحار أساعده فى تنظيف غرفة «البريدج» التى يقودون منها السفينة، و«الديك»، وغرف التحكم والمحرك، وبعد أن اختبر إمكانياتى فى عمل عقد الحبال، سواء كانت «العقدة المعطوفة» التى تتكون من عقدتين بسيطتين وتستخدم عادة لربط حبلين من نفس المقاس تقريبا على بعضهما أو «عقدة وتد مجوز» تلك التى تستخدم لربط حبل فى عمود، إنها لحظة للمودة الخالصة حيث يولد جنين لصداقة غير عادية، فى هذه اللحظة كنت فيها منهمكا فى تلميع «الجيروسكوب» النحاسى وتنظيف سطح خزان «البالاست ووتر» عندما اقترب منى «ألبيرتو ألفاريز ريجاردو» وهو يحكى لى عن ميناء «ليسبوا» الذى جاء منه، وعندما تولدت دمعة فى عينيه كف عن الحديث واخترقت صدره تنهيدة عميقة وخرجت على هيئة زفير فيه من اللوعة أكثر مما فيه من الراحة، لكنه على مائدة الغداء فى وقت الراحة راح يحكى لك عن ميناء «لشبونة» الذى جاء منه وعن «تورى دى بيليم» الذى ينتصب فى مدخل الميناء ليحكى عن تاريخ البرتغال وعرفت أن «ليسباو» هى «لشبونة»، وللمذكرات بقية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة