وسط حزمة الأزمات الأمنية والاقتصادية والبطالة والتضخم وغيرها، يترقب المصريون الانتخابات البرلمانية، بينما عادت "مسألة الهوية" لتفرض نفسها على الواقع السياسى، والمجتمع الذى يقف منقسمًا حيالها؛ فقد كانت الدولة قبل تحولات الأعوام الأربعة الأخيرة تعانى "تأميم الدين" وتوظيف الهوية سواء عبر الأزهر والحركات الإسلامية والكنيسة، لتحقيق مصالحها، وتواطأت النخبة الانتهازية، بينما كان عوام المصريين يتّحدون تحت شعار: « الدين لله والفقر والاستبداد للجميع ».
ولعل الأخطر من معضلة الهوية فقدان ثقة الناس بالسياسيين، وجعلها تفقد الثقة بالعملية السياسية، لكن بتقديرى المتواضع واستنادًا لخبرات سابقة متراكمة بمطبخ الدولة المصرية، وتجارب أخرى مع النخبة، التى تشكل الرأى والمزاج العام، يمكننى الزعم بأن الليبرالية قدر مصر بالمرحلة المقبلة، فليست هناك خيارات مأمونة العواقب سوى تبنى مشروع "الديمقراطية الليبرالية" كمرجعية سياسية وفكرية، فلا يمكن الانحياز لأفكار راديكالية، جلبت للبلاد والعباد مواجهات على كافة الأصعدة الداخلية والإقليمية والدولية، من بقايا التجارب بتراثها البائس كالإخوان والشموليين.
يبدو المشهد السياسى الراهن فى مصر قيد التشكل لدرجة يكاد المرء يجهل أين يضع قدمه، فالوفد «الجديد» لا يحمل ملامح سعد زغلول والنحاس ومكرم عبيد، والأحزاب الجديدة مازالت "تحت الاختبار" وتنتظرها سنوات طويلة لتشكل قواعدها الشعبية، كما أننا الآن نعانى ما يمكن وصفه بـ«الفراغ السياسى» لقوى كانت فاعلة بمصر الليبرالية، كالوفد الشعبوى وغريمه النخبوى "الأحرار الدستوريين" وتجربة السياسى الداهية إسماعيل صدقى، فلا أرى بالأفق الراهن شخصيات مؤهلة لتكون امتدادًا لتلك الأدوار الاحترافية بالعمل العام .
دعونا نعترف بشجاعة أن هذه الطبقة من الساسة المحترفين جرى تجريفها، وتآكلت حتى انقرضت منذ حركة ١٩٥٢، ولعلنا الآن بحاجة مُلّحة لهؤلاء الساسة المحترفين ، فمن أخطر ما نعانيه هؤلاء الذين يتصرفون ويفكرون بطريقة الموظفين، وفى كل الخيبات التى منينا بها، منذ هزيمة يونيو ١٩٦٧، وصولاً لهشاشة الأنظمة التى تعاقبت على الحكم، حيث الأداء السياسى الفاشل وتدنى الكفاءات واستبعادها لصالح المحسوبية .
علينا الاعتراف بأن طبقة الساسة المحترفين بمصر الليبرالية تعرضت لأبشع أساليب «الشيطنة» والممارسات المنهجية للاغتيال المعنوى لدرجة تُشكل جريمة تزييف للتاريخ بفجاجة، حين تم وصفهم باللصوص والفاسدين والعملاء، بينما تحمل ذاكرة شهود تلك المرحلة أنهم لم يكونوا بالطبع ملائكة، لكنهم أيضاً لم يكونواً لصوصًا ولا مستبدين، أبشع مما كابدناه طيلة عقود بدأت عام 1952، فقد اضطر هؤلاء الساسة القدامى للتصدى لاحتلال بريطانيا العظمى وتبنوا رؤية تمثل «مدرسة برجماتية» تتعامل مع حقائق السياسة بواقعية، خلافاً لمدرسة "الشعارات الزائفة" التى يتمسك رموزها بتجاربهم السياسية الفاشلة التى تجاوزها الواقع، ولعلنا الآن أحوج ما نكون للتعلم من تجربة الآباء المؤسسين للدولة المصرية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة