السير فى شوارع بكين، المنتظمة كما خطوط الحاسب الآلى، والواقعة كما الوديان بين جبال شاهقة من المبانى الخرسانية حديثة الطراز، متطورة المعمار، وبين آلاف السيارات الفارهة، أمر كافٍ للإيمان بشعار الحملة الإعلانية لمنتجات أديداس الشهيرة.. «Impossible is Nothing»، المستحيل لا شىء، خاصة مع إدراك الحالة التى كانت عليها بكين قبل 20 عاما من الآن، وكيف انتقلت من وضعها العشوائى القبيح إلى شكلها الحضارى الحالى.
ربما لهذا السبب ذهب عبدالفتاح السيسى إلى الصين، يطلب منهم الإرادة، السرعة فى البناء والإنجاز، يطلب منهم خبرة إعادة بناء الدولة وتقديمها مرة أخرى فى ثوب القوة لا ثوب الباحث عن الإعالة، ربما كان ذلك هدفه، أو ربما تلك أمنية خلقتها الأجواء الصينية وقصص الانتقال من مركبة ذيل العالم، إلى حيث كابينة قيادته.
السير فى هذا الطريق، طريق اعتقاد أن السيسى أراد من التجربة الصينية خبرتها فى إحياء الإرادة الشعبية وإعادة بناء وطن من كومة رماده، تعززه طبيعة الزيارة وظروفها، وبدايتها وخاتمتها والرسالة التى كررها السيسى على مسامع الصينيين فى كل الاجتماعات مرة على سبيل الإشارة، ومرة بطريقة حازمة، ومرة ثالثة فى هيئة شرط مسبوق قبل أى تعاقد أو استثمار.
بدأ السيسى زيارته بالعلم وأنهاها بالعلم، بدأ أول فعاليات زيارته للصين بلقاء رؤساء أكثر من 36 جامعة ومركز بحث صينى، وأنهاها بزياة مقاطعة سيشوان أحد أكبر وأهم القلاع الصناعية فى الصين، والتى تضم بشكل أساسى مشروعات البحث العلمى والتكنولوجى ومصانع الطاقة التقليدية والجديدة والمتجددة، وفى المنتصف التقى الرئيس خلال زيارته برؤساء شركات السياحة الصينيين فى حضور وزير السياحة الصينى، وجمعه لقاءان مع رجال الأعمال الصينيين وأكبر رؤساء الشركات الصينية العملاقة العاملة فى مجال الإنشاءات والفضاء والتكنولوجيا والطاقة، ثم بدأ لقاءاته الرسمية مع الرئيس الصينى، ثم رئيس الوزراء ورئيس البرلمان وقيادات الحزب الشيوعى، وفى كل لقاءاته وبتنويعات مختلفة تتلون مرة بشكل ودى وأخرى فى هيئة شرط، كان الرئيس يعلن أن من يريد الاستثمار فى مصر، من يريد أن يتعاون مع القاهرة لابد أن يضمن لنا توافر 3 شروط، لا تراجع عنها الأول أقل تكلفة ممكنة، والثانى أسرع وقت ممكن، والثلث أعلى ضمانات ممكنة، كان يقول باختصار إن من يريد الاستثمار عليه أن يستثمر فى ما ينفع الشعب المصرى، ويتوافق مع رؤية الدولة فى إعادة بناء الوطن، وتلك كانت الرسالة الأولى القوية، التى تعوض لنا سنوات من العيش كدولة ومواطنين تحت رحمة أهواء السيد المستثمر، كنا فيها نفتح أبواب الاستثمارات ليربح القادمون من الخارج، بينما يسخر الجالسون فى الداخل.
أكثر من نافذة يمكنك أن تطل من خلالها على زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى للصين، يمكنك مثلا أن تراها من نافذة الاستثمار، وسيكون المشهد مبهجا بالنسبة إليك بسبب كمية الاتفاقيات التى تم توقيعها بين الحكومة المصرية والجانب الصينى، أو كمية الشراكات والأموال المتدفقة جراء التعاقدات بين بعض المؤسسات المصرية وكبرى الشركات الصينية العاملة فى مجال الطاقة والإنشاءات.
ويمكنك أن تنظر لها من نافذة السياسة، وسترى تحركا مصريا راقيا فى الملفات الخارجية يتم بسلالسة وهدوء ويحقق الكثير من النجاحات ولكنه يدفعك للمقارنة بين الدولة التى تتحرك بهذه الحرية وتحقق النجاحات فى الملف الخارجى، والدولة التى تتحرك مقيدة وتسير ببطء فى ملفات الإصلاح الداخلى، وهو السؤال الذى طرحته على السيد الرئيس أثناء لقائه الخاص مع شباب الإعلاميين فى مقر إقامته ببكين، مرفقا بنصف سؤال آخر يستفسر عن استشعاره عمل بعض الكيانات على تعطيل تحركاته فى الداخل وجاء رده بعد ابتسامة، متحدثا عن صعوبة التوغل بعنف فى عمليات إصلاح الجهاز الإدارى للدولة المصرية لافتا أنه لا يتصور أحد إصلاح الجهاز الإدارى للدولة وهيكلته فى 6 شهور فالأمر يحتاج إلى 10 سنوات على الأقل ومهمة الجميع الآن نشر الأمل والهدوء.
من نافذة السياسة سترى ما هو أبعد من لقاءات ثنائية أو اقتصادية بين الرئيس والمسؤولين الصينيين، سترى دولة تقول للعالم إنه كفت واكتفت بسياسة السير نحو قطب واحد، وإنها الآن تسير خلف مصالحها التى تدفعها لتنويع اتجهاتها بين واشنطن وموسكو وبكين.
سترى من نفس النافذة اتفاقية «علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة» التى وقعها الرئيسان المصرى والصينى، وستفهم من بين سطورها ما هو أبعد من الصيغة الدبلوماسية الخاصة بمناقشة العلاقات الثنائية بين الدولتين وتلك المفاهيم التى اعتدنا الحديث عنها عقب الزيارات الرسمية، ستجد أن الصين التى تحظى بنفوذ واسع فى أفريقيا، وتحديدا فى منطقة حوض النيل قد وقعت على اتفاقية مع مصر تتضمن بندا يقول: (تحترم كل من الدولتين الشؤون الداخلية للآخر وتؤيد حقها فى تحقيق مصالحها والحفاظ على أمنها القومى بكل أبعاده ووحدة وسلامة أراضيها)، ومن هنا يمكنك أن تفهم أن الملف الإثيوبيى كان حاضرا فى المفاوضات بشدة، وأن الرئيس عبدالفتاح السيسى ربما يكون قد نجح فى أن يستميل بكين لصفه قبل موجة تفاوضات جديدة مع أديس أبابا التى تنتظر من السيسى زيارة مهمة أو ربما ترقى لمستوى الأمور الفارقة فى هذا الملف .. ملف الماء ودول حوض النيل.
من نافذة أخرى تخص الشأن الداخلى، نجحت مؤسسة الرئاسة ولو قليلا فى التخلص من عبء بعض الإعلاميين المحسوبين عليهم، فى هذه المرة كانت الصور القادمة من مؤسسة الرئاسة تحمل وجوها جديدة، تقف فى المنتصف بين ضفتى التهور والتطبيل، واختفت من الصور تلك الوجوه التى طالما تعرض السيسى للهجوم بسبب ظهورها بجواره، سيقول البعض وما الفائدة، وسأقول لك إن إنجاز الشهور الستة الأولى لحكم السيسى هو نجاح كل الجهود الشابة، أو جهوده هو الشخصية فى كسر تلك الهالة التى صنعها مبارك لكرسى الرئاسة طوال 30 عاما ماضية، وكلل السيسى هذا الإنجاز بإصراره على لقاء الإعلاميين الشباب داخل مقر إقامته ببكين بعد أن عاشت مصر سنوات كان الرئيس فيها لا يتلقى سوى رؤساء التحرير والإعلاميين من المطبلين، وبإصراره على أن يخبر الجميع أنه يختلف عن سابقيه حينما أعلنها بكل صراحة للحضور بأنه كرئيس لجمهورية مصر العربية يعلم تماما أن الشعب المصرى تغير بعد ثورتين، وأصبح يستطيع أن يقول لأى شخص جالس على كرسى الرئاسة بعد 4 سنين مع السلامة، نريد حاكما آخر، وتلك خطوة لو تعلمون عظيمة فى ظل وطن عاش فى أحضان رؤساء كان الواحد منهم لا يخجل من أن يخرج لسانه للشعب قائلا: باق طالما فى القلب نبض.
وهذا هو ملخص زيارة الصين، تقارب سياسى مع دولة قوية، رفع مستوى تعاون اقتصادى واستثمارى مع دولة واعدة تملك ما نحتاجه فى ملف الطاقة وتكنولوجيا الاستشعار عن بعد، وأخيرا خلق صورة جديدة لرئيس جمهورية يعلم تماما أن أمره فى يد شعبه، وليس كما كان يعتقد أسلافه بأن مصير شعبهم كان ملك يمينهم.