متى تنتهى الثورات؟ وهل الثورة، أى ثورة، كما تتساءل صديقة أثيرة على سبيل الإنكار والاستنكار: حبة فيتامين تُلقى فى كوب ماء فتفور محض ثوانٍ حتى تذوب؟
إن شئت إجابة معلّبة، فلعلك تلتمسها فى مقولة إن الثورة تنتهى حين تُسقط النظام الذى خرجت ضده، وربما ترتأى أنها تخبو حين تسوق نخبة إلى المقصلة وترتقى بأخرى إلى سدة الحكم، كما قد يقال إن الثورات تصل إلى المحطة الأخيرة، حين تؤسس لنظام سياسى، يرضى عنه الناس، أكثر مما كانوا يرتضون بما كان قبله.
على أن الإجابات السالفة رغم صحتها مجتمعة أو منفردة، ليست جامعة مانعة، فانتهاء الثورات لا يكون إلا حين يتلاشى الوعى الذى حفرته بإزميلها على جدران القلوب، وسجلته أناملها على صفحات العقول، هذا بغض النظر عمّا إذا كانت انتهت إلى تأويل ما اختمر فى وجدانها من أحلام، أم سقطت فى ظلمات الإحباط.
بهذا المعنى فإن الثورات ليست حركة سائبة يحكمها قانون القصور الذاتى، كالأجرام فى الأفلاك، وإن بدت لحظة انطلاقها على ذاك النحو، بحكم ما يطفو على سطحها من فورة غاضبة وحماسة عفوية وربما غريرة.. ذاك مظهر وليس جوهرًا.
منذ يناير الثورة، وحتى الآن، يمكن رصد ملامح الوعى الناشئ، ما إن تجلس إلى كرسى بمقهى شعبى، أو تستقل وسيلة مواصلات عامة، فبسطاء الناس صاروا يتنفسون سياسة، حتى وإن لم تخلُ نقاشاتهم من غوغائية وعصبية وسطحية، ترجع تحقيقًا إلى بداءة وبدائية التجربة، لكن تغيرًا كهذا لا يمكن المرور عليه دون تمعن، خاصة بالنظر لما كان الأمر عليه قبل يوم الخامس والعشرين، وتحريًا للدقة قبل جمعة الغضب.
الناس صاروا يتكلمون، والكلام مبتدأ الوعى، بل هو أيضًا أول الحرب، إن شئت تأصيلًا.. وعليه فإن صرخات دعاة العودة إلى الوراء، ممن يريدون استنساخ مقولات: "امشِ جنب الحيط.. ومن خاف سلم"، لن تجدى نفعًا.. فمتى يجدى نعيق الغربان فى خرائب مهجورة ؟.. ومتى استوقفت الخرائب "الذين ينظرون إلى الشمس المضيئة هازئين بالسحب والأمطار والأنواء"؟ على حد تعبير شاعرنا الجميل أبى القاسم الشابى.
الوعى أيمّا بلغ مستواه، أدرك الجميع، سواء الذين اقتحموا الميادين بصدورهم العارية، أو أعضاء حزب الكنبة، الذين يشكلون النسبة الأكبر فى مصر، أو حتى أعداء الثورة ممن وجدوا فيها تهديدًا يحيق بمنظومة مصالحهم.
الوعى أدرك الجميع.. وعى ليس ظاهريًا هامشيًا، وعى له جذور راسخة فى أعماق الأعماق، وعى ترسخ حتى فى نفوس الأطفال، وهو ما عبر عنه الراحل أبو العز الحريرى ذات "دردشة بديعة" جمعتنا، حيث قال يرحمه الله: "ليس يساورنى خوف بعد يناير، ويكفينى أن أرى أحفادى يهتفون بسقوط نظام مبارك حتى أطمئن".
وعلى خطى حفيدة الحريرى، يمشى جيل من الصغار، ممن رويت براعمهم بمياه الثورة الطاهرة، ومنهم ابنتى فريدة ذات الأعوام العشرة، التى أصيبت مبكرًا ربما بفعل عوامل وراثية من الأب بـ"متلازمة عشق الكتابة"، وأصبحت تعبّر فى هذا العمر الغرير، عن كل ما يجيش فى خاطرها بالورقة والقلم، أو على الـ"آيباد"، حتى أنها شرعت تكتب قصصًا قصيرة أراها بعين الأب المتيم أروع مما كتب "ثربانتس" صاحب "دون كيخوت"، وأعمق من إلياذة هوميرس.
مؤخرًا كتبت "فريدة" قصة بعنوان "عصفورتى لوليتا"، تقول فيها ما معناه: "كان عندى عصفورة خضراء اسمها "لوليتا" أحبها وتحبنى، وأقدم لها الطعام والشراب، وفى مرة كنت أنظف القفص، فانتهزت الفرصة وحلقت هاربة عبر شباك مفتوح" .
وفى ليلة قمراء –والكلام لايزال لفريدة- كنت أقف فى الشباك، أفكر فى عصفورتى، فرأيتها ترفرف بجناحيها أمامى، ففرحت جدا وتخيلت أنها ستعود، لكنها وقفت على فرع شجرة وقالت: "أحبك يا فريدة لكنى أحب الحرية أكثر."
آخر سطر من قصة العصفورة "لوليتا"، يختزل الكثير، ويوحى بالكثير، ويكشف عن الكثير، لمن يقرأ ولمن يفهم.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
احبك يا فريده واحب اباك لانكما تعشقان الحريه
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
المصري
الحرية
عدد الردود 0
بواسطة:
naseh fa
العصفور لا يبني عشاً في القفص حتى لا يورّث ابنه العبودية
عدد الردود 0
بواسطة:
اميمه فاروق على
ماشاء الله