محمد الشبه

من شباك الزنزانة رقم 5

الخميس، 04 ديسمبر 2014 09:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان شباك الزنزانة الصغير ذو القضبان السوداء الخشنة هو منفذى الوحيد إلى العالم الخارجى، من الشباك أسمع وقع الأقدام الثقيلة لعساكر السجن، وعبر الشباك يأتينى الأمل مع كل سجين جديد يدخل السجن من طلبة الجامعة الذين كان نظام السادات يعاقبهم بالبطش والسجن كلما خرجوا فى تظاهرات تطالب بالديمقراطية وتحرير أرض سيناء المغتصبة فى يونيو 1967.

فى الزنزانة 5 قضيت ليلة رأس سنة 1973.. ليلة موحشة وقاسية على فتى لم يتجاوز الواحد والعشرين عامًا، وكانت الاتهامات المعلبة فى هذا الزمان هى يسارى متطرف محرض على قلب نظام الحكم ومثير للبلبلة يهدد الأمن القومى للبلاد، كلام ضخم واتهامات كانت تغيب أى أحد فى السجن لسنوات، ولم يكن عقلى يستوعب فى هذه السن خطورة الاتهام بتهديد الأمن القومى، كل ما كنت أعرفه وأطالب به مع آلاف الطلبة فى الجامعة هو تحرير أرض سيناء التى احتلتها إسرائيل وأن يسمح النظام للشعب بحرية التعبير والتنظيم وأن يتوقف عن اعتقال السياسيين وأصحاب الرأى.

لم أكن أعرف عندما أخذت فجرًا من شقة الطلبة التى أقطن فيها فى حى بين السرايات قبالة جامعة القاهرة، أنى سوف آتى إلى هذا المكان المظلم الموحش، ولم أكن أعرف أنى فى سجن القلعة الرهيب إلا فى صباح اليوم التالى عندما شعرت أن هناك سكانًا غيرى فى المكان.. وسمعت من ينادى.. يا شبه.. أيوه.. مين.. بهاء؟.. سمير.. زين.. المخزنجى.. الكردى و.. تعالت الصيحات والهتافات.. أصوات طلبة من كل الجامعات وجوه عاشقة لمصر، كلها هنا فى سجن القلعة تهتف.. تحيا مصر!

وفى سجن القلعة ومع بشائر أول صباح أيام عام 1974 كتب الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد (طالب الفلسفة فى كلية الإعدادى آنذاك) قصيدته الشهيرة .."واتجمعوا العشاق فى سجن القلعة.. اتجمعوا العشاق فى باب الخلق.. والشمس غنوة من الزنزانة طالعة.. ومصر غنوة مفرعة فى الحلق".

وهى الأغنية التى لحنها الشيخ إمام عيسى فيما بعد وكانت إلهامًا لكل انتفاضات الشباب حتى ثورة يناير 2011 .

وفى منتصف نهار ذلك اليوم.. هز فضاء القلعة صوت زميلنا سمير غطاس (الطالب بكلية طب الأسنان) من زنزانة مجاورة وهو يهتف.. نجم وصل يا شباب.. أهلا يا أبو النجوم.. واختلطت أصوات سكان كل الزنازين مهللة ومرحبة بشاعر الحركة الطلابية المصرية فى السبعينيات أحمد فؤاد نجم.

وبالنسبة لى أنا سجين الزنزانة رقم 5 كان حضور نجم إلى السجن حدثًا رائعًا ومثيرًا.. والأهم أنه أدخل الطمأنينة إلى قلبى الصغير وشعرت حينها بأن أهلى معى الآن.. مصر كلها هنا فى سجن القلعة!

ثم أخذ نجم ينادى علينا بالاسم واحدًا واحدًا.. مين اللى فى زنزانة واحد؟.. مين اللى فى اتنين.. مين اللى فى تلاتة.. مين اللى فى أربعة.. ومين اللى في خمسة؟ .. هتفت بأعلى صوت: أنا يا نجم.. أنا الشبه.. فقال: أنت هنا يا أبو الشباب.. طيب خد بالك بقى من بلاط السجن.. احسن برد القلعة وحش !

كنت أصغر الموجودين فى القلعة وكان أحمد فؤاد نجم يعاملنى كابنه.. شاعر صغير.. تلميذ قادم من المنصورة بلد الشعراء وأم كلثوم، وكان بيته فى حارة حوش قدم بالغورية أول مكان أذهب إليه منذ قدومى لدراسة الصحافة بجامعة القاهرة.. كنا ننهى محاضراتنا ونتوجه إلى حوش قدم نجتمع كلنا حول نجم يلقى أشعاره والشيخ إمام يغنى بصوته الأزهرى على عود قديم .

"مصر يا أمة يا بهية يا أم طرحة وجلابية.. الزمن شاب وانتى شابة هوه رايح وانتى جاية".. وكلما كان الشيخ يقول "وانتى شابة" يقولها وراءه بصوت عالٍ ويشير لى وهو يضحك .

وكنت فى ذلك الوقت معروفًا بين طلاب الجامعة بأنى من حفظة أشعار أحمد فؤاد نجم ألقيها فى الندوات والمؤتمرات، وكان من أشهر قصائده ذائعة الصيت فى ذلك الوقت قصيدته عن "تشى جيفارا" التى نعى فيها المناضل العظيم التى قتلته المخابرات الأمريكية فى أحراش بوليفيا وسخر فيها فى نفس الوقت من مناضلى الميكروفونات فى مصر .

"جيفارا مات.. ما رأيكم دام عزكم يا أنتيكات.. يا غرقانين فى المأكولات والملبوسات.. يا دفيانين ومولعين الدفايات.. جيفارا مات يا بتوع نضال آخر زمن فى العوامات.. لا طنطنة ولا شنشنة ولا إعلانات "!

كان أحمد فؤاد نجم أشهر سجين سياسى فى مصر، ملهم الثورة الشاب وشاعر الفقراء هو نزيل الزنزانة رقم 6 الملاصقة لزنزانتى فى القلعة، وفى هذه الزنزانة كتب نجم قصيدته الشهيرة عنا نحن طلبة السبعينات.
"صباح الخير على الورد اللى فتح فى جناين مصر.. صباح العندليب يشدى بألحان السبوع يا مصر.. صباح الداية واللفة ورش الملح فى الزفة.. صباح يطلع بأعلامنا من القلعة لباب النصر".

ومنذ ذلك اليوم لم يتوقف أحمد فؤاد نجم عن الحلم بالثورة وعن التحريض بالقصيدة وعن مقاومة الظلم والدفاع عن الفقراء.. دخل السجن 18 مرة، وعبرت أشعاره حدود الوطن وكان لسانه الطويل وسخريته القاسية سوطًا يلهب أنظمة القمع والاستبداد فى مصر والمنطقة العربية.. وعاش نجم ابن حارة حوش قدم حياته بالطول وبالعرض، كان أقوى من جلاديه والحكام الذين هاجمهم وسخر منهم نجم، ماتوا إما مهزومون أو مغتالون أو زجت بهم شعوبهم فى السجون! .. وعاش أحمد فؤاد نجم حرًا طليقًا، ولم يمت إلا بعد أن شاهد المصريين وهم يشعلون ثورتين فى 3 أعوام والملايين تهتف بإشعاره فى ميادين مصر.. "الجدع جدع.. والجبان جبان.. بينا يا جدع ننزل الميدان".





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة