هذا عنوان مجلة قديمة جدًا فى مصر، فى القرن الماضى، كانت بلسمًا للقراء والناس، ومصدرًا للضحك والسعادة بما فيها من مقالات قصيرة وطويلة وصور وكاريكاتير. اختفت هذه المجلة من مصر، لكن كل عناصرها لم تختف.
يوم صدر الحكم ببراءة مبارك كانت الآراء على الإنترنت أكثر صراحة من غيرها، رغم الترحيب الكبير بالبراءة الذى ظهر فى العديد من القنوات التليفزيونية وأيضًا بسببه مما نشر مضحكًا ومبكيًا أيضًا والله، القول بأن مبارك هو بطل لأهم طلعتين فى مصر، الأولى الطلعة الجوية فى حرب أكتوبر، والثانية أنه طلع زى الشعرة من العجين من القضايا المتهم فيها، ومنها بشار الأسد يتخلى عن الحكم بشرط محاكمته فى مصر، ومنها هى الشيخة ماجدة راحت فين، أو يجب تعيين الشيخة ماجدة وزيرة أوقاف، ومنها صور لمدرعات الداخلية تطلق القنابل على المتظاهرين والدخان يملأ الفضاء، وتحتها تعليق «الداخلية وهى تبخر الشعب»، ومنها نفس الصور وتحتها حماس يوم 28 يناير. وهذه بالذات بصورها المتكررة حازت أكبر عدد من الريتويت «الإعادة»، وهكذا آلاف من التعليقات والصور كلها تمزج وتسخر.. لن أقول إن هذه طبيعة المصريين فقط، لكن سأضيف لمن لا يعرف ويجب أن يعرف أنها أيضا قوة المصريين.
كنت أتوقع الحكم بالبراءة مما مرّ طوال المحاكمة، ومما سمعناه من الجلسات الأولى عن غياب المستندات والأدلة، ولم أكن أتصور أى معنى لكلام الشيخة ماجدة الذى كان محل سخرية الجميع بما فيها الفضائيات التى هى سعيدة بالبراءة الآن، وكان كلامها عن أنها رأت جنود حماس وإيران وهم يخرجون من النيل يوم جمعة الغضب 28 يناير ويقتلون الثوار.. تحولت السخرية فى الإعلام من كلام الشيخة ماجدة، وتحول كلامها فجأة إلى حقيقة فى الإعلام ومرافعات المحكمة من كل ذلك.
خرجت صباح السبت فى الوقت الذى كانت المحكمة تنتظر دخول القضاة، ولم أشأ أن أرى الجلسة.. قررت أن أشترى سمك! آه والله!- أى واحد دلوقت حيعلق ساخرًا منى ويقول ليه ما اشترتش كوسة حاعمل له بلوك على تويتر، أو أشيله من أصدقائى على الفيس- المهم تذكرت بعد أن اخترت ما أريد أننى مضطر إلى الجلوس فى أقرب مقهى للمحل حتى ينتهى تنظيف السمك وطهو ما اخترت أن يطهو منه. دخلت المقهى مقررًا أن أطلب من الجرسون أن يطفئ التليفزيون لكننى لم أستطع. كانت الجلسة قد انتهت وتتم إعادة قراراتها، لم أستطع ليس لأنى أريد أن أعرف، فأنا أعرف وأتوقع البراءة، لكن لأن الجالسين كان من بينهم رجل أبيض سمين جدًا فوق ما تتصور، وجواره رجل نوبى أرفع ما تتصور، وشابان أحدهما يرتدى نضارة وقصير جدًا، والثانى طويل جدًا ويقف لا يجلس.. كان منظر الأربعة هو ما لفت انتباهى، أحسست أننى فى مدينة من الغرائب، لكنهم أعادونى إلى الواقع.. قال الطويل جدًا: الحمد لله مبارك خد براءة، ورقص وهو يدور ثم توقف، وقال: أمّال مين اللى قتل الناس، دا احنا شفنا كل حاجة. وأضاف طبعًا لفظًا معروفًا عند أهل الساحل رغم أننا فى القاهرة. أما السمين جدًا فقد راح يهز رأسه فى دهشة طفولية عذبة، هكذا السمان، وقال: يعنى دم الشباب راح هدر، حرام كده. أما النوبى الرفيع جدًا فقال: ياعم الاستعدادات الجبارة التى خرجت لمواجهة مظاهرات السلفيين أمس كانت تعرف أنه لا سلفيين ولا يحزنون، لكنها خرجت من أجل من يفكر فى الاحتجاج اليوم. ثم قال: هكذا الإخوان والسلفيون صاروا فزاعة للنظام كما كانوا، بهم ينتهى من معارضيه الحقيقيين. وراح من يرتدى النظارة يهز رأسه إلى أعلى وأسفل، أما الجرسون فهمس لى: أغير المحطة يا أستاذ؟.. أدركت أنه لمح دمعة تتسرب من عينى، هززت رأسى نافيًا الطلب، وظلت المحطة تبث فرحة أبناء مبارك، لكننى لم أعد أرى شئيًا، لم تطل جلستى واتجهت لبائع السمك، أخذت ما اشتريت وعدت إلى البيت، أمضيت اليوم فى صمت، أفكر أحيانًا كيف كنت أتوقع وكيف لم أتحمل، أتذكر أيام الثورة، وما رأيته فى الشوارع والميادين وما كتبته فى كتبى.. من المستحيل على من رأى أن يصدق غير ما رأى، لم أفتح التليفزيون، ولم أتابع القنوات، لا مصرية ولا غيرها، لكن رسائل الأخبار تأتينى على الموبايل.. عرفت بتجمع الشباب فى ميدان عبدالمنعم رياض، وبازدياد المتجمعين فيه، اضطررت للمتابعة فى التليفزيون، لم أجد أثرًا فى أى قناة خاصة أو عامة، فقط فى قناة الجزيرة، ثم عرفت أن هناك بثًا مباشرًا يفعله بعض الشباب، دخلت على الإنترنت، وجدت من يتساءل: عاجبكم كده؟ حتخلونا نشوف الجزيرة تانى!.. كنت أعرف أن المظاهرة ستنفض، فقانون التظاهر سيطبق.. أغلقت كل سبل الرؤية، لا أريد أن أرى موتًا ولا إصابات، عكفت على قراءة الأساطير اليونانية التى أجد فيها دائمًا تفسيرًا لكل شىء، وهروبًا من كل شىء، تذكرت أسطورة بروكست التى فيها يمتلك بروكست فندقًا صغيرًا، من يأتى يبيت فيه يرى إذا كانت ساقاه أطول من السرير فيقطع منهما، وإذا كانتا أقصر يشد فيهما ويخلعهما لتصبحا بطول السير.. المتلونون.. لم تسعفنى، تذكرت أسطورة «أوديب» التى قتل فيها أباه، وتزوج أمه دون أن يعرف، فحل بالمدينة الوباء لأنها تنام فوق خطيئة.. لم تسعفنى القصة، لكن أسعفنى أن المدن التى تعيش فوق خطيئة يحل بها الوباء فى النهاية.. تذكرت أسطورة «أخيل» الذى فى كعبيه نقطة ضعفه، لم تسعفنى لأن آفة حارتنا النسيان كما قال نجيب محفوظ.. تذكرت أسطورة «تنتالوس» الذى حين رفعه هرقل عن الأرض راحت قوته، هو ابن آلهة الأرض التى تعطيه القوة، أسعفتنى بعض الشىء.. ابتعدت الثورة عن الأرض حين صدقت أن الإخوان فصيل وطنى، وابتعد الإخوان عن الأرض حين عادوا الثورة، ويبتعد النظام الآن عن الأرض إذا تصور أن المعادلة القديمة صالحة، أعنى بسب الإرهاب تسكت كل معارضة سلمية، لكننى فجأة تذكرت الشيخة ماجدة، وكيف لم تظهر حقًا فى الفضائيات وهذا يومها؟، أين ذهبت حقًا هذه السيدة؟ ولماذا لم تخرج تطالب بناء مقام لها فلم يعد ما قالته خرافة، بل حقيقة؟.. عدت إلى الإنترنت لأرى ما سبق فى بداية المقال من لطائف المصريين.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة