وما أنا - الآن - إلا مجرد فرد بائس من المتفرجين «أو على أحسن الفروض» مجرد فرد أدرك أخيرا أن «قابيل» و«هابيل» كانا شقيقين من نطفة واحدة، وأن الخير والشر من نطفة واحدة، وكذلك العقل والجهل من نطفة واحدة، والاشتراكية والرأسمالية من نطفة واحدة، والرواية والمسرحية من نطفة واحدة، كما أن القصة القصيرة والقصيدة من نطفة واحدة، وهكذا فإن كل نطفة تحمل الضد والضد، والشبيه والشبيه، والكل يحمل نفسه ويحمل ضده، والكل من نطفة واحدة، هى «النطفة السر» التى لا يعرف أحد كنهها، وهذا سوف يوضح للجميع طبيعة الكارثة التى سوف تحيق بالجميع، وفى الحقيقة المجردة القاسية لا مفر من العزلة ولا مناص ولا خلاص من هذه الوحدة، وهذا السأم المقيم، ولا خلاص من الجشع المستفز والكراهية التى ترفع رأسها فى الطرقات واحتراق الوعد العظيم وتوارى اللذة خلف الألم؛ فبشرى لكل من رفع راية المتعة الخالصة باتجاه الهدف الأسمى: الانتقام، لكنه سوف يفشل- كما فشلت أنا - فى تغييب الألم واسترداد السكينة، فقد أصبح كل شىء محاطا بالشكوك والشبهات؛ فلتكن عندنا الشجاعة مرة واحدة فى حياتنا لنفتح أعيننا على الكارثة ونرى ما حدث وما سوف يحدث منذ هذه اللحظة، فما حدث لم يحدث فى الماضى لكنه سوف يبدأ - منذ الآن - فى الحدوث، وأنا الوحيد الذى يعرف مستقبله؛ فأنا الذى عشته؛ فالتذكر لن يمكنه الاستعادة الحية للكلام الذى قلته أو سمعته كما أن التذكر لا يمكنه الاستعادة الحية للأفكار التى راودتنى قبل هذه اللحظات التى سوف أحكى عنها، كما أن التذكر لا يمكنه الاستعادة الحية لشكل الوجوه والأصوات والمناظر، أنا أريد أن يكون كل شىء حيا، ولن يتأتى ذلك إلا بأن أترك كل ما حدث يتداعى فى حرية تامة فى كيانى حتى يبدأ كل ما حدث فى الحدوث بداية من هذه اللحظة.
هذه ليست معلومات أو أفكار أو كلمات مخزنة فى الذاكرة المجهدة بفعل الزمن والصداع المزمن وتصلب عضلاتى فى بعض الأوقات، وليس هذا من تأثيرات حبوب «ميللريل» وحبوب «برولكسين» أو حتى حبوب «ترابلافون» الأقل قليلا فى إصابتى بالصداع، لقد تمكنت أخيرا من السيطرة على هذا الصداع الذى يدق رأسى بقسوته ليس بأى شىء، إلا بشيئين: فص الأفيون والحديث مع «شخص آخر» بشرط أن نكون منفردين وحدنا بين أربعة جدران وباب مغلق، لا يخلصنى من مطارق الصداع إلا الأفيون والحديث مع «شخص آخر» منفردين فى مودة؛ لن يحدث شىء هنا - منذ هذه اللحظة - على سبيل التذكر، لكن الحياة سوف تعود لكل ما حدث، فعلى قدر كراهيتى الشديدة للصور الفوتوغرافية على قدر حبى للصور المتتابعة على شاشة السينما فالصورة الفوتوغرافية مجرد محاولة بائسة لتخزين الحياة فى الذاكرة لكن الصورة فى السينما هى الاستعادة شبه الحية لما حدث، حتى ولو كانت على سبيل الخداع والشبه الشاحب، بالإضافة إلى أننى فقدت المقدرة على التذكر لأن مستودع تخزين ذكرياتى قد أصبح منذ مدة بعيدة جزءا منى خارجا عنى، ولا أعرف «طبعا لا أعرف» كيف حدث ذلك، لكنه حدث، فبالنسبة لى لا شىء يموت ولا يختفى ولا يخفت، فكل الذى حدث قد حدث منذ أكثر من عشر سنوات وما زال يتجدد حدوثه، وما زلت أعيش فيه، وما زال يعيش فى، فما زال أبى يوقن بأن الله قد وهبه الابن الخطأ، وبالرغم من توقفى عن متابعة تناول حبوب «برولكسين» وكذلك حبوب «ميللريل» فإننى مازلت أستخدم حبوب «ترابلافون»، وللاعتراف بقية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة