حكمة اليوم: «سرِّب ما شِئتَ فإنك مُسرّبٌ لك»
(1) فى أعمال التشطيبات المنزلية، لا يفرق «السباك» بين تسريب حنفية المطبخ، وتسريب حنفية الحمام، كلاهما يؤدى إلى إهدار الماء وغرق الشقة وفساد محتوياتها وكلاهما يتم القضاء عليه بنفس «الجلدة» ونفس طريقة التركيب.. هذا إن كان السباك من هؤلاء الذين يتقون الله حتى يجعل لهم مخرجا.
والمعروف عرفا فى نواحى مصر أن الذين يتقون الله بحثا عن المخرج الطيب من الدنيا، قليلون فى «عالم السباكة» كما هم قليلون فى «عالم السياسية»، وتلك أزمة وطن يعافر على مدار 4 سنوات ماضية للخروج من نفق الارتباك إلى حيث نور بناء المؤسسات وتأسيس المستقبل على أعمدة العدل والحرية والكرامة.
(2) فى الفترة الأخيرة اعتدنا انتشار مكالمات مسجلة سرا فى الفضائيات والمواقع، بعض هذه المكالمات يخص قيادات ومسؤولين كبارا فى الدولة، وبعضها يخص رموزا سياسية كبيرة، وكثير منها يخص نشطاءً وشبابا معارضين.
أمام القانون تبدو كل التسريبات سواسية، جريمة تحتاج إلى عقاب، عقاب من سجلها دون إذن قضائى، وعقاب لمن سربها، وعقاب لمن يروجها، هكذا يقول قانون العقوبات: (يعاقب بالحبس كل من اعتدى على حرمة الحياة الخاصة للمواطن وتشمل هذه الاعتداءات التنصت أو تسجيل ونقل محادثات جرت فى مكان خاص أو عن طريق التليفون، وفى غير الأحوال المصرح بها قانونا أو بغير رضاء المجنى عليه، كما ينص على الحبس أيضا لكل من أذاع أو سهل إذاعة أو استعمل ولو فى غير علانية تسجيلا أو مستندات متحصلا عليه بأحد الطرق بغير رضاء صاحب الشأن).
أمام البشر تتوه كل معانى المساواة، لا أحد يؤمن بحدوتة «كأسنان المشط»، ولا بحكمة «كلنا ولاد تسعة»، ولهذا يأتى التعامل مع التسريبات وفق الهوى الشخصى، ويتوقف مدى رضا التيار الاجتماعى أو السياسى عن التسريبات أو رفضها على حسب المصلحة العائدة عليه من نشرها، إن تضر المصلحة اعترض عليها ورفع راية القانون والحريات الخاصة، وإن كانت لصالحه، صمت ومررها تحت شعار من حق المجتمع أن يعرف ما يحاك ضده، وبين هذا وذاك وأولئك لا أحد يفكر أبدا فى مصلحة الدولة أو خطورة كونها مخترقة بهذا الشكل، أو قسوة تحولها إلى لعبة فى يد جهة مجهولة تتسلى بالجميع أو تعيد من خلال نشر التسجيلات تشكيل أو تأهيل المزاج العام لأمر ما.
(3) علميا يعرفون الحالة البشرية السابقة التى توافق على إذاعة تسجيلات غير قانونية بين أشخاص أو منعها حسب المصلحة، بأنها ازدواجية المعايير أو الكيل بمكيالين، وهو مفهوم أخذ هيئته السياسية وانتشر فى عام 1912 للإشارة إلى مجموعة من المبادئ تتضمن أحكاما مختلفة لمجموعة من الناس بالمقارنة مع مجموعة أخرى، مبادئ ينظر إليها على أنها مقبولة لاستخدامها من قبل مجموعة من الناس، ولكنها تعد غير مقبولة ومن المحرمات عندما تستخدم من قبل مجموعة أخرى. ووفقا للتعريف يعد الكيل بمكيالين نوعا من التحيز الظالم لأنه ينتهك مفهوما أساسيا فى الفقه القانونى يقول بأن جميع الأطراف يجب أن تقف على قدم المساواة أمام القانون.
من هنا يمكننا أن نترجم ما حدث فى الوسط السياسى والإعلامى المصرى بعد ظهور التسجيلات المنسوبة إلى اللواء ممدوح شاهين والنائب العام بخصوص مكان حجز مرسى، وأن نقارن نفس موقف الدولة بما حدث وقت إذاعة تسجيلات النشطاء وشباب الثورة على الملأ وفى أغلب الفضائيات، وترجمة المقارنة السابقة لن تنتج لك سوى عنوان قبيح يقول بأن الدولة تسارع لنصرة المظلوم حينما يتطابق هذا الفعل مع مصلحتها الخاصة، وتحجم عن ذلك أو تغض الطرف عن الظالم عندما يكون الوقوف مع المظلوم متعارضا مع مصلحتها الخاصة.
(4) بعد ساعات قليلة من ظهور التسريب المنسوب للواء ممدوح شاهين ووزير الداخلية والنائب العام حول مكان احتجاز مرسى، انتفضت الدولة، خرج الإعلاميون وعدد من الكتاب برفقة عدد من المصادر الأمنية والخبراء الإستراتيجيين لنفى هذا التسجيل والتأكيد على فبركته، واتهام الإخوان لأنهم أصحاب المصلحة الوحيدة فى إفساد قضية مرسى، بعضهم ركب موجة الحماس وتحدث عن انتهاك القانون، والحريات الشخصية وعقوبة التجسس، وعدم جواز تسجيل المكالمات إلا بإذن قضائى.. ثم خرج النائب العام بأسرع بيان قال فيه إن هذه التسجيلات مفبركة ووعد بملاحقة سريعة لمن سجلها وفبركها ومن يشارك فى نشرها وتوزيعها.
عودة سريعة إلى الوراء ستكشف لك أن عددا من الإعلاميين أو ربما هم أنفسهم أذاعوا العديد من المكالمات المسجلة بين شباب الثورة وكرروا فعلهم عدة مرات فى أيام كثيرة وسط صرخات من الشباب بضرورة تدخل الدولة وعقلائها لمنع هذه المهزلة، ولكن لم يحدث سوى أن خرج نفس الكتاب والإعلاميين والمصادر الأمنية والخبراء الإستراتيجيين على الهواء مباشرة لتحليل هذه المكالمات وإعلان ضرورة نشرها حتى يعرف الناس من هم العملاء والخونة، ومن هم الشباب، وحتى حينما اعترض البعض على عدم الذهاب بهذه التسجيلات للنائب العام مباشرة نظرا لما تتضمنه من مكالمات ومعلومات خاصة قالوا إن الشعب من حقه أن يعلم، ولا يجوز الحديث عن الحريات الخاصة والحرمات حينما يكون الوطن فى خطر، لم نسمع منهم مذيعا ولا خبيرا ولا مصدرا أمنيا ولا مسؤولا يحدثنا عن قانونية هذه التسجيلات ولا جريمة انتهاك الخصوصية ولا ضرورة الحصول على إذن قانونى قبل التسجيل ولا عدم جواز الاعتداد بهذه التسجيلات فى الحكم على البشر نظرا لإمكانية التلاعب بها والاجتزاء والقطع من السياق كما يفعلون الآن بعد انتشار تسجيلات المسؤولين الكبار فى الدولة.
(5) قال النبى الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم،: (.. فإنما أهلك الذين مَن قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ، أقاموا عليه الحدَ.. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها).
افهمها كما تفهمها، ولكننا نعلم يقينا أن فى الحياة أقمشة سوداء وأخرى بيضاء، ولكننا لم نعلم يوما ما أن بها أيضا تسريبا أسود وتسريبا آخر أبيض، كلها تسريبات، وكلها تقول إن جلدة فاسدة فى جسد هذا الوطن ربما تتسبب فى غرقه يوما ما وإفساد محتوياته المجتمعية والسياسية والأخلاقية أن لم يسارعوا بتغييرها.