يتحدث المفكر التونسى د. هشام جعيط عن واقعنا العربى قائلا: إن ما نعيشه فى عالمنا هو تراكم الفراغ، أى أن الغرب المتقدم جنى ثمرات التنمية والتحديث تراكما معرفيا فى كل الميادين بينما جنينا نحن تراكم الفراغ الفكرى، الذى تبدو ملامحه فى ضعف مؤسساتنا وغياب مشروع وطنى حقيقى للتحديث والنمو، يمكن التعويل عليه فى انتشال أمتنا من وهدة الفقر والتبعية والتخلف. تدور معاركنا الداخلية حول التراث بين من يتمسكون به بكل عيوبه ونقائصه، وما دسه لنا أعداؤنا عبر العصور مما اصطلح على تسميته بالإسرائيليات تحميلا لطرف آخر، جريمتنا فى حق ديننا وتراثنا الفقهى والمعرفى، الذى يعد أحد أسباب ما وصلنا إليه من ترد وتخلف، وشتان بالطبع بين من يطرحون أفقا للحل بإعادة قراءة التراث قراءة واعية متأنية نتعرف من خلالها على الغث والثمين بمعنى تحرير الدين مما علق به عبر العصور، وليس التحرر منه ومن قيمه بالكلية كما يدعو بعض المتطرفين العلمانيين.
هذا التطرف العلمانى فى ظنى الذى كان من نتائجه المباشرة، نشوء هذا التيار الدينى المتطرف الذى رفعت رايته مجموعات حركية ادعت الصلة بالدين، واستخدمته كأداة رئيسية للتعبئة النفسية للأتباع والأنصار، فمنذ شعرت تلك المجموعات بتحدى الهوية الذى مثلته صيحات التطرف العلمانى فى مطلع القرن الماضى، اتخذت تلك المجموعات أخطر إجراء دفاعى مثل جذر الأزمة التى نعيشها اليوم، فمنذ تلك اللحظة كرست جماعات الإسلام الحركى ذلك التناقض الوهمى بين الدين والوطنية، وتسرب هذا المفهوم لوعى شرائح متعددة حتى قبل ميلاد تلك المجموعات على يد شخصيات مثيرة للجدل ويتسم تاريخها بالغموض كالأفغانى، الذى يقول فى مقال منشور بمجلة بالعروة الوثقى تحت عنوان «الجنسية والديانة الإسلامية»: كل رابطة سوى رابطة الشريعة الحقة فهى ممقوتة، على لسان الشارع والمعتمد عليها مذموم، والمتعصب لها ملوم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» ثم يقول: والآيات والأحاديث متضافرة على هذا، ولكن يمتاز بالكرامة والاحترام من يفوق الكافة فى التقوى- اتباع الشريعة. فالمسلمون وفق رأيه لا يعتدون برابطة الشعوب، وعصبيات الأجناس والفارسى يقبل سيادة العربى، والهندى يذعن لرياسة الأفغانى، ثم يقول فى مقال آخر: «لا جنسية للمسلمين إلا فى دينهم، فتعدد الملكة عليهم كتعدد الرؤساء فى قبيلة واحدة، والسلاطين فى جنس واحد» نشر هذا الكلام فى الجريدة فى سنة 1884 أى قبل نشأة أولى الجماعات الحركية التى رفعت هذا الشعار بأكثر من ثلاثة عقود، مكنت لهذه الفكرة التى لا أعتقد أنها مصادفة أن أطلقت فى مصر بعد عامين فقط من دخول الاحتلال البريطانى، الذى عزز هذا الانقسام برعايته لجماعة الإخوان باعتبارها المعادل الموضوعى للقومية الناشئة والصاعدة فى مصر وقتها والتى هددت وجوده.
نشأ فى الأمة فريقان الأول يدافع عن الدولة الوطنية، والآخر يراها خطرا على الدين ويحاربها بكل الوسائل، وحملت جماعة الإخوان هذا العبء أو تلك المهمة وظلت تعمل بدأب لبناء ولاية الفقيه السنية فى مصر، لتكون النموذج الجديد الذى يعزز الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، ويطلق الإثنيات من عقالها وينسف وحدة الوطن الواحد، وتشتعل الحروب الأهلية لنجد هذا التناقض البادى فى المجتمع العراقى بين سنة وشيعة وأكراد، والذى مثل نموذجا متفردا فى عالمنا العربى، حاول الإخوان التسلط على مقدرات الشعب باسم الدين، وجسدت تجربتهم عبر عام من حكم مصر خبيئة نفوسهم تجاه الدولة الوطنية ومؤسساتها، لم تنحز الجماعة عبر تاريخها إلى الشعب المصرى ونضاله الوطنى لنيل حقوقه فى بداية الثلاثينيات، فبينما كان العشرات من أبناء الشعب يسقطون فى معركة الدفاع عن الدستور ضد حكومة إسماعيل صدقى والأحرار الدستوريين الذين كانوا أداة الملك والإنجليز فى سلب الشعب المصرى حقوقه المشروعة أدارت الجماعة الظهر لهذا النضال الوطنى بل كرست جهدها للتآمر على إضعاف أكثر الأحزاب شعبية وتمثيلا للأمانى الوطنية وهو حزب الوفد، وأصرت على أن تكون كما عهدناها دوما شوكة فى خاصرة الدولة الوطنية، ولم تكن جماعة الإخوان وحدها ما مثلت هذا التناقض، بل شاركتها مجموعات حركية أخرى خرجت منها أو خرجت عليها، لكنها ظلت تشاركها حلم إسقاط الدولة، لحساب تصورها الخاص عن الدولة الذى جسدته هى فى مرحلة وثار عليها المصريون، عندما انتفضت سبيكة هذا الشعب الحضارية ورفضت الانصياع للجماعة وخلعتها بعد عام واحد من حكم مصر، ولكن هل تختلف جماعة الإخوان كثيرا عن داعش التى تمددت فى العراق وسوريا وقدمت هذا النموذج الوحشى الذى لا يمت للإنسانية أو الأديان بصلة؟ الفارق فى تقديرى أن جماعة الإخوان كانت أكثر حرصا على إخفاء نواياها وإن كشفتها أضواء الحكم، حيث تؤمن الجماعة الأقدم بالعنف المؤجل، الذى هو أخطر فى أثره من العنف العاجل الذى تجسده داعش. يدهشنا فى الحقيقة هذا التناغم بين أداء الإخوان فى الشوارع والجامعات الذى يوفر الغطاء السياسى لحركة أنصار بيت المقدس وأجناد مصر وغيرها من المجموعات التى ترفع السلاح فى مواجهة الدولة، بما يشى أننا أمام شكل من أشكال توزيع الأدوار بين كل تلك المجموعات، التى يجمعها نفس الهدف، إسقاط الدولة الوطنية التى إن لم تجدد حيويتها كما جرى فى العراق وسوريا، فقد نجد أنفسنا أمام نموذج قريب من داعش أو داعش مصرية، تبدو خلاياها النائمة أكبر مما يتصور الكثيرون، التطرف فى النهاية حربه واحدة وإن تنوعت مجموعاته ووسائله فقد راكم الخبرات الحركية والتنظيمية التى تجعله يجيد توظيف عناصره وتبديل ملابسه وهيئته، كما نرى فى واقعنا اليوم. بقى أن تمتلك الدولة الوطنية الحد الكافى والضرورى من الحيوية، الذى يمكنها من سحب البساط من تحت أقدام تلك الجماعات بأداء الدولة الوطنية الراشدة، التى تعالج أخطاءها وتستنهض همة مؤسساتها بالشكل الذى يساعد على إجهاض مؤمرات الإرهاب والتطرف ويعزلها بعيدا عن أى حاضنة شعبية محتملة.
عدد الردود 0
بواسطة:
م/ يحيى هاشم
وهذا ما قاله مؤسس الجماعة فى الوطنية
عدد الردود 0
بواسطة:
م/ يحيى هاشم
وهذا ما قاله مؤسس الجماعة فى الوطنية
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد فارس
سلمت يداك