كما أن العلم لا يمكن أن يكون حقاً إلا إذا بدأ من نقطة الإيمان بالغيب، فإن الاتجاه الذى يقصر حياة الإنسان وتقدمه على الإيمان بالغيب وحده يتعارض مع روح الدين نفسه القائم على العقل والداعى إلى العلم واحترام وسائله من حواس وغيرها، إن ما يسمى بالسلفية وهو مصطلح يطلق على كل من يعيش حياته المعاصرة وهو ينظر إلى الوراء، فيرى الحق هو ما قاله الأسلاف فى العلم والفكر فهم يتحدثون عن ضرورة البقاء مع السلف فى حياة واحدة مسقطين من الحساب فعل الزمن، هؤلاء كارهون للعلم والحضارة الإنسانية، وتتمثل كراهيتهم للحضارة والعلم فى صيحات تدعو إلى حياة دينية تنفصل عن الواقع فى حديثهم عما أسموه «بالغزو الثقافى» وهذا النمط من الناس يعيشون حياة مزدوجة فيحيون أمام الناس وكأنهم مدثرون بدثار السلف ثم لا يفوتهم فى الخفاء أن ينعموا بطيبات العصر وحضارته، هؤلاء السلفيون ينكرون الحضارة المعاصرة وينكرون علومها معتقدين أنهم بهذا الإنكار يخدمون الدين، وهم خاطئون فى فهمهم لحقيقة هذا الدين، لأننا ندين بدين يكرر لنا الحض على قراءة خلق الله من زرع وحيوان ونجوم ومطر ونبات إلى آخر الظواهر الطبيعية التى ساقتها آيات القرآن الكريم، ويأمرنا باستخدام وسائل العلم الحديث من نظر وملاحظة وتجربة، ومن أخطاء التيار السلفى أيضاً محاولة استخراج الحقائق العلمية من القرآن أو ما يسمى «الإعجاز العلمى فى القرآن»، وقد بيّن د. زكى نجيب محمود أن هذا يعد انحرافاً شديداً عن النظرة العلمية والمنهج العقلى الصحيح وذلك لأمرين:
الأول: أن القرآن الكريم إنما هو كتاب نزل ليوضح عقيدة وشريعة، قد يكون فيه بعض الإشارات إلى حقائق علمية، إلا أن ورودها لم يكن بقصد أن تكون نظرية علمية، وإنما وردت لتخدم القصد المتفق مع سياق ورودها.
الثانى: أن العلم بحكم طبيعته يصحح نفسه بنفسه والحقائق فيه متغيرة، فربما وصل العلماء إلى حقيقة ما فتظل هذه الحقيقة صحيحة وثابتة حتى يأتى علماء آخرون باكتشاف أكثر اتساعاً وشمولاً ليغيروا أو يضيفوا إلى الحقيقة السابقة، وهكذا تظل الوقائع تتكشف لنا، ونظل نلاحقها بتغيير القوانين العلمية، فإذا ارتبط العلم بالعقيدة، فمن ذا الذى يرضى لعقيدته الدينية أن توضع فى هذا المنظور المتغير مع تعاقب العصور؟ مبادئ الدين ثابتة عند المؤمنين بذلك الدين لأنها فى آخر المطاف معايير يقاس بها السلوك ليجزى خيراً بخير وشراً بشر، فلابد للمعيار أن يحتفظ بمعنى واحد وإلا فقد معياريته، أما العلم فيتغير دائماً طالما هناك اكتشافات جديدة فهو متغير مع تقدمه فى عصر من العصور، لأن عصراً لاحقاً يصحح أخطاء العلم فى عصر سابق وليس ذلك لذبذبة فى طبائع الأشياء، ولكن قدرة الإنسان المحدودة هى التى تجعله يعلم جانباً من الظاهرة المعينة ويغيب عن جانب فتجىء معرفته العلمية منقوصة يكملها خلفاؤه من العلماء.
وبالتالى فإن استخراج الحقائق العلمية من القرآن الذى هو دين منزل ثابت يمثل منتهى الحقيقة سيؤدى إلى أحد أمرين: إما أن يُثَبِّت العلم الطبيعى وهذا محال، أو أن يتغير الدين الثابت بتطور العلم وهذا محال أيضاً، لأن الجانب الإيمانى تظل قوته حتى لو بطلت الحقيقة العلمية التى تقدم لتكون سنداً له، ولذا يجب علينا احترام الحقائق العلمية التى لا سبيل إلى نكرانها حتى إذا وجدناها كأنما هى تتعارض مع نصوص العقيدة فى ظاهرها، ووجب النظر فى تأويل تلك النصوص تأويلاً يقبله العقل وتقبله اللغة العربية فى الوقت نفسه، لأننا لو تركنا الفجوة قائمة بين نصوص العقيدة من ناحية والحقائق التى تثبتها العلوم من ناحية أخرى، فتحنا بذلك الباب واسعاً أمام ذوى النفوس الضعيفة أن يشككوا فى نصوص العقيدة، إذ يتعذر على العقل البشرى، كما فطره الله سبحانه، أن يجد حقيقة تُثْبَت بالعلم الأكيد ثم يتنكر لها، وهذه الفجوة كانت من الأسباب الرئيسية لموجة الإلحاد التى تجتاح العالم حالياً.
وبالتالى يجب التأكيد على استقلال مجال العلم عن مجال الدين، فهما مستقلان من حيث الموضوع ومن حيث المنهج، وإن كان كلاهما يشتركان فى أنهما يفصحان عن الإنسان، وأن التقاءهما معاً فى الإنسان الواحد يحقق اكتماله، ولذا يمكن للعلم والدين أن يجتمعا معاً لخير الإنسان، فللمسلم كتابان: كتاب القرآن الكريم، وكتاب الكون العظيم، فمن القرآن يستمد المسلم المبادئ والقواعد التى يقيم حياته السلوكية على أساسها، ومن الكون يستمد الإنسان المسلم وغيره قوانين العلم، وكلا الكتابين مقروء للناس بمقادير ودرجات، ولكل كتاب عالِمٌ مختص به ولغة خاصة وقانون ومنهج خاص، فيجب على العالِم فى كل مجال أن يقصر بحثه على مجال علمه فلا يتجاوزه فيما لا يفهمه ولا يقدر حدوده، وإن كان يمكن لعالم الطبيعة بعد أن ينتهى من معرفة الكون أن يؤمن أكثر برب الكون فيكون إيمانه حينئذ «نور على نور» ويكون قد جمع بين العلم والإيمان، فالمسلمون يعبدون الله من ناحية دراستهم للكون بالعلم، بالإضافة إلى عبادته من ناحية أركان الإيمان بالدين.
المسلمون الأوائل لم يكن الدين وسيلتهم للجمود، بل كان دافعاً لهم إلى العلم والمعرفة، ونحن الآن فى أمس الحاجة إلى هذا الفهم الداعى إلى العلم عندما كان علماؤنا علماء مسلمين وليسوا علماء ومسلمين، فالعلم بجانب الدين وليس شيئاً منفصلاً عنه، وعندئذ كانت العبادة ذات وجهين، وجه نحو العقيدة والعبادة والمعاملات، ووجه نحو النظر والتفكر فى السموات والأرض وما بينهما على نحو ما أمر القرآن الكريم، فإذا اتجه المسلمون بإيمان راسخ وعميق نحو دراسة العلوم لا من حيث هى مذكرات تحفظ، بل من حيث هى عبادة لتميزوا فى هذا المجال بالقياس إلى علماء الغرب، فالعلم يستفيد من الدين والدين أيضاً يستفيد من العلم، لأن العلم يزيد المؤمن إيماناً على إيمانه، وهكذا يزداد الإيمان إيمانِيّة عن طريق العلم، والعكس صحيح أيضاً وهو أن العلم يزداد علمية عن طريق الإيمان الدينى لأن هذا الإيمان يفيد الإنسان قيماً وسلوكاً قويماً منها ما يحض على العلم مثل: قيمة أفضلية العلم على الجهل فلا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فهى قيمة دينية تحفز العالِم على المضى فى علمه مهما لقى فى سبيله من مشقة، وقيمة الأمانة فى الحق فيوجب الدين على الإنسان عامة، وعلى العالِم بوجه خاص أن يكون أميناً على الحق صادقاً فى إعلانه، وقيمة الصبر التى يعتمد عليها فى استمرار البحث من أجل الوصول للحقيقة «وإذا تصدى لعلمك جاهلون».
يقول د. زكى نجيب محمود: إن الفكرة الجوهرية فى الإسلام هى فكرة التوحيد، ويستطيع العالم أن يطبقها على نظرته للعلوم كلها وعلى نظرته لأجزاء الكون وأيضاً على نظرته للإنسان فيتحقق له التوافق والإحساس بوحدانية الكون على اختلاف أجزائه، فيوحد قوانينه ومبادئه فى أصل واحد، الدين والعلم كلاهما دعامتان مهمتان للإنسان والتقدم، والأصل أن الإنسان يبدأ بالفهم والعلم، فقاعدة المسلم يجب أن تكون «إنى أفهم أولاً ثم أؤمن»، وهذا التأجيل ليس نفياً لوجود الدين فى حياة الإنسان إلى ما بعد الفهم فالدين يتعلمه الإنسان منذ الصغر، وإنما المقصود أن كمال الإيمان ورسوخه وحكمته وحقيقته لا يكون إلا بالفهم والعلم لذلك كان أول ما أمر به الرسول هو: «اقرأ» فلم يأمر بعقيدة أو عبادة وإنما أمر بالفهم أولاً.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
pop
كلام عظيم