بالأمس مررت قدرا ببرنامج من برامج الطبخ الشهيرة تتابعه زوجتى العزيزة بشغف، وبالنسبة لشخص لا يجيد عمل كوب شاى لنفسه مثلى ففى العادة تعد تلك البرامج صوتا فى خلفية المشهد لا ألاحظ تفاصيل المعلومات الدسمة التى يحويها، لكن هذه المرة قرعت أذنى كلمة عجيبة صرت أسمعها كثيرا مؤخرا.. الحقيقة هى ليست مجرد كلمة بل هى ضمير متكرر فى صياغة الكلام الذى حوته مداخلة سيدة من سيدات البيوت الفضليات اللاتى يحلو لهن عمل مداخلات فى تلك البرامج. السيدة الفاضلة كانت تقترح على الشيف مقترحا حفته ببعض التشويق والإثارة والحرص على ألا يتسرب المقترح الثمين الذى اختصت به الشيف (لهم).. قبل ما ذهنك يذهب بعيدا ويظن أن المقترح له شأن بالسياسة وأن الضمير (هم) عائد على فصيل ما - ورغم أن هذا لم يعد بعيدا حتى عن برامج الطبخ- فإن الأمر لم يكن له علاقة هذه المرة بالسياسة. المقترح كان بأن يقدم الشيف فقرة يومية ثابتة عن استعمال كل تابل من التوابل المشهورة التى تحتاج إليها سيدات البيوت، وتحدث لهن أحيانا بعض (اللخبطة) فى استعمالها. ما علينا.. المهم طوال المكالمة تؤكد السيدة الفاضلة على أهمية التعجيل بتنفيذ المقترح حتى لا (يلطشوه) وكى لا تفاجأ (بهم) بعد أيام وقد (لهفوا) الاقتراح ونفذوه منهم لله (البُعدا). العجيب أن الشيف كان يومئ برأسه موافقا ومتفهما وكأنما هو معتاد على هذا التحذير (منهم).
هم مين بقى؟ من هؤلاء؟ هكذا سألت زوجتى مستفهما فلعلها تتابع البرنامج فتكون أدرى منى بأعداء الشيف الذين يتربصون به، ويسرقون أفكار برامجه بحماس، وإصرار يستدعى هذا الحرص من السيدة الفاضلة الموالية للشيف، لكنها لم تعرنى انتباها كافيا فقد كانت الوصفة لديها أهم من تلك النقاط الهامشية، وما شأنك أنت بأعداء الشيف؟ لماذا تشغل نفسك (بهم)؟. الحقيقة أننى لم أكن قلقا لهذه الدرجة على مستقبل الشيف وبرنامجه لكننى كنت منتبها لأمر آخر حتى فى وصفات الطعام صار هناك (إحنا) و(هم)!! حتى برامج الطبخ صار لها أولتراس ومشجعون وموالون وفى المقابل أعداء نجاح متربصون؟! هل هذا شىء طبيعى؟! هل ترانى مبالغا يا عزيزى القارئ وقد صنعت من الحبة قبة؟! ربما تكون محقا فى وصفى بالمبالغة لو أن هذه مجرد كلمة عابرة وثقافة نادرة، وأنا قد أضفيت عليها نوعا من الزيادة، لكن هلا راجعت نفسك والمحيط الذى تعيش فيه ثم تعيد تقييم المشهد الذى ذكرته لك وبعدها تخبرنى مشكورا: هل هى فعلا جملة عابرة أم قد صارت بالفعل ثقافة شعب؟! ثقافة (إحنا) و(هم) ثقافة تجدها فى الكرة كما تجدها فى السياسة وبلا شك ستجدها فى الفن والطرب والآن قد وجدتها فى الطبخ وعالم المأكولات.
هذه الروح الانقسامية المتربصة أراها الآن تسرى خلال طبقات مجتمعنا بمختلف مراحله العمرية حتى بلغت لهو الأطفال ولعبهم البرىء، وقد أضحت نفس اللغة تشوبه بوضوح.. لغة الانقسام والعداوة والتربص.. لغة الحذر من الناس التانيين المختلفين الوحشين.. لغة يسعرها أقوام بجهد غير محمود ولا مشكور وبألسنة حداد لتتحول فى النهاية إلى أصل وامتحان يعقد لكل مواطن فحواه فى كل أمر عظيما كان أو تافها امتحان: إنت معانا ولا مع الناس التانيين؟! بينما يتراجع تدريجيا السؤال الأهم الذى نحتاج إليه حقا لنستفيق من تلك الإغماءة التعصبية سؤال: هل الأمر دائما يستحق أن يكون هناك ناس تانيين؟ حتى فى برامج الطبخ؟!