تفجّر قضية تفجير الأتوبيس السياحى بمدينة طابا قضايا فكرية وفقهية ودعوية عديدة.. وقد قام أحد الشباب بتفجير نفسه بعبوة متفجرة على باب الأتوبيس السياحى الذى يقلّ مجموعة من السياح الكوريين، مما أدى إلى انفجار الشاب وموته، وانفجار الأتوبيس السياحى وتحويله إلى كتلة من اللهب، ومقتل السائق وبعض السياح الكوريين الجنوبيين وجرح الباقين.. ومن أول هذه القضايا وعلى رأسها الآتى:
أولاً: ما شعور الشعب الكورى الجنوبى حيال هذا الحادث؟.. وما الذى سينقدح فى ذهنه عن الإسلام والمسلمين وبلادهم وهو يرى ويسمع أن بعضًا من شعبه من المدنيين المسالمين قُتل وجُرح دون ذنب جناه أو إثم ارتكبه، ولا علاقة له بالصراع السياسى فى مصر أو فى أى مكان فى الشرق الأوسط كله؟.. كيف سينظر إلى الإسلام؟.. وكيف سينظر إلى المسلمين بعد هذه الحادثة؟.. وكيف سيكون استقباله بعد ذلك لكل من سيطعن فى الإسلام، أو يقول عنه إنه دين الإرهاب والعنف وقتل المدنيين والآمنين؟
لقد أساء هؤلاء للإسلام أعظم إساءة، وقدموا لأعداء الإسلام أعظم خدمة، وقدموا لخصوم النبى صلى الله عليه وسلم أعظم هدية، ولوثوا فريضة الجهاد العظيمة التى ابتليت بالمسلمين الذى يضعون السيف فى غير موضعه، ويجاهدون فى المكان الخطأ، وفى الزمان الخطأ، وبالطريقة الخاطئة، فيكره الناس كل شىء عن الإسلام والجهاد، ويعتقدون أن الجهاد يساوى العدوان على الآخرين وقتلهم دون جريرة. والإسلام فعلاً يؤتى من أبنائه قبل خصومه، فالإسلام قضية عادلة يتولاها محامون فاشلون أمثال هؤلاء الذين يفجرون ويقتلون ويدمرون، فتخسر هذه القضية العادلة بسبب هؤلاء المحامين الفاشلين.. والإسلام تجارة رابحة، يتولاها تجار فاشلون أمثال الكثير ممن يقدمون الإسلام فى أسوأ صورة، فتفشل هذه التجارة.. ولو ترك الإسلام وحده يدافع عن نفسه دون هؤلاء ما خسر أى قضية.
ثانيا: ما ذنب هؤلاء الكوريين الجنوبيين حتى يحولهم هذا الشاب وأمثاله إلى جثث وأشلاء، ويعيد مصابيهم إلى بلادهم وصور الخوف والفزع لا تفارق مخيلتهم.. هل قتلوا أحدًا؟.. هل سجنوا أحدًا؟.. هل نصروا الحكومة المصرية أو أحد الطرفين المتصارعين على الحكم فى مصر؟.. هل يعرفون شيئًا عن هذا الصراع السياسى المدمر؟. إنهم لا ناقة لهم ولا جمل فى كل ما يمت لمصر بصلة.
ثالثاً: لا يجوز قتل إنسان للضغط على آخرين، أو ابتزازهم، أو إلزامهم بالتفاوض.. ولا يجوز قتل أى إنسان مسلمًا كان أو غير مسلم للإفراج عن آخرين أو تحسين أحوالهم، فهذه قضية عادلة لا يتوصل إليها بالحرام والمنكر والبغى.. فالإسلام منع بشكل قاطع أن تقتل أو تجرح أو تروع أى إنسان مهما كانت ديانته أو جنسيته لأن آخرين قد ظلموك أو حبسوك أو سجنوك «وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى»
ولا يجوز أخذ رهينة من أبرياء أو قتلهم أو جرحهم لتحقيق غرض عند آخرين، وذلك لقوله تعالى «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى».. «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» وهذه الآيات كلها تقرر أنه لا يضار برىء من أجل تحقيق مصلحة دينية أو دنيوية عند آخرين.
رابعًا: الأصل فى كل النفوس العصمة، وقد قال الفقهاء قديمًا «الأصل عدم جواز إتلاف النفس»، سواء كانت هذه الأنفس مسلمة أو غير مسلمة، مصرية أو غير مصرية، متدينة أو غير متدينة، إخوانية أو سلفية، شرطة أو جيش، مسلمة أو مسيحية، عربية أو أجنبية، ولا يزول هذا الأصل إلا بدليل أوضح من شمس النهار.. والدليل على ذلك قوله تعالى «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»
فقد عبر القرآن بكلمة «نفس» ولم يقل «من قتل مسلما»، وقال «النفس بالنفس»
ومن ثوابت الإسلام التى لا تتزعزع، ولا تتغير مع تغير الأزمان والبلاد والأعراف والأمم حفظ الضرورات الخمس.. ومن أهم هذه الضرورات حفظ النفس البشرية، فلم يأت الإسلام ليهلك الأنفس المسلمة أو غير المسلمة فى غير ميدان، أو لتقتل هذه الأنفس المعصومة دون مصلحة شرعية صحيحة، أو أن تزهق دونما هدف.. والشريعة الغراء أمرت القضاة بدرء الحدود بالشبهات، رغم أهمية الحدود فى الشريعة الإسلامية فقال صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات»، كما منع القاضى أن يقضى بعلمه، أو يقضى وهو غضبان أو جائع أو.. أو.. حفاظًا على نفس المتهم، فنفس المتهم رغم اتهامه بالجرم لها أهمية فى الشريعة، وهى أهم وأعظم من إنفاذ الحدود الشرعية نفسها.
أما فى الحروب فلم يجعل الإسلام القتال شرفًا فى ذاته، فمجرد القتال لا يدعو للفخر، فالوحوش فى البرارى تتقاتل ويقتل بعضها بعضًا، ويسفك بعضها دماء بعض ظلمًا وعتوًا، لكن ما يدعو للفخر حقًا هو القتال فى الحروب العادلة، إعزازًا للدين ودفاعًا عن الأوطان، وأن تقاتل نصرة للدين والحق، وإعزازًا للأوطان وتحريرًا لها.. وقد أعجبنى كثيرًا ما نص عليه الفقيه العظيم ابن تيمية من أن قتل الأنفس كلها هو نوع من المفسدة العظيمة، وإنما أباحته الشريعة فى الجهاد الحق لمصلحة أعظم من هذه المفسدة، وهى حماية البلاد والعباد من شر المعتدين، فإن لم تتحقق هذه المصالح التى شرع لأجلها فقد انتفت مشروعيته.
خامسًا: لا يجوز بإجماع العلماء قتل المدنيين، حتى فى حالة الحرب، لقوله تعالى «وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ».
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل حروبه عن قتل المدنيين «لا تقتلوا طفلاً ولا امرأة ولا شيخًا فانيًا»، أى المدنيين بلغة العصر.. حتى إن عمر بن الخطاب كان يقول «لا تقتلوا الفلاحين» لأنهم ليسوا من المقاتلة والجند فى زمنه، وهذا يؤكد معنى حرمة قتل المدنيين.
سادسًا: إن السائح قدم إلى بلادنا بعقد أمان، وقد قال صلى الله عليه وسلم «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم» أى أقلهم شأنًا.. وجواز السفر هو عقد أمان بصورته الفقهية الحديثة، واستقدام شركة السياحة عقد أمان كذلك، واستقدام المستشفى لخبير فى الجراحة يعد عقد أمان، واستضافة أسرة لأى أجنبى يعد عقد أمان، وقد أجاز الإسلام أمان المرأة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأم هانئ: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ»
سابعًا: جربت الجماعة الإسلامية المصرية فى التسعينيات ضرب السياحة من أجل الضغط على الحكومة، فما زاد ذلك الحكومة إلا عنادًا وظلمًا وتضييقًا وتنكيلًا بها، ولم يجعل ذلك الدول الأجنبية تتعاطف مع الجماعة، لكنها تعاطفت مع الدولة المصرية ودعمتها، وأيقنت أنها على الصواب فى حربها مع الجماعة.. وما زاد ذلك السجون إلا تضييقًا، والأحكام إلا تشديدًا، وبدأت المحاكم العسكرية والاستثنائية فى العمل والزيادة، وتكالبت كل الدول الأوروبية على الجماعة الإسلامية وتأييدًا للنظام.
ثامنًا: أزمة الحركة الإسلامية المستعصية أنها تبدأ دومًا من حيث بدأ الأولون بأخطائهم وسلبياتهم وهناتهم، بل إنها تكرر الأخطاء والسلبيات دائمًا، ولا تريد أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون.. و«إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ».