هل سمعتم بشاب هجر أمه المريضة لأنه فشل فى إقناعها بتلقى ما يعتقد أنه العلاج المناسب لأوجاعها، أم جلس ليقبل قدميها لتقبل بالذهاب للطبيب.
لا أعتقد أنكم تتعاطفون مع من يعير أمه بمرضها أو فقرها، أو حتى جهلها، ستبقى تلك السيدة التى أطعمته لما جاع، وطببته حين مرض، وسهرت من أجل سعادته، حتى شب رجلاً يدق الأرض بأقدامه العفية، ويرفع صوته بسبها أحيانًا حين يغضب ثم يعود لإستعطافها أن ترضى عنه من جديد؟.
أعانى معاناة شديدة فى متابعة حوارات الشباب على الفضاء الإلكترونى، وفى مواقع التواصل الاجتماعى من مستوى وطبيعة الحوار بيننا، هل هذه مصر التى نعرفها؟ هل هذا هو مستوى الحوار بين أبنائها؟
كنا نردد ونحن صغار بلادى وإن جارت على عزيزة وأهلي وإن ضنوا على كرام، ولطالما تغنى فنانونا ببهية الصبية، المعجبانية وتغزلوا فى جمالها رغم قسوتها أحيانًا عليهم، الآن نلعن البلد، ويلعن بعضنا بعضًا.
فى جل ما أتابعه من حوارات سواء فى الفضاء الإلكترونى أو فى الأعلام المرئي والمسموع والمكتوب، قاسم مشترك لغة تشيع مناخًا من اليأس والإحباط، وأن هذا الوطن لن ينصلح حاله وأننا جربنا فى علاجه الثورة فلم تنفع، وجربنا السياسة فلم تشفع، لا حوار حقيقي يجرى وإنما سباب وتجاوز، التخوين والتكفير فيه أقرب إليك من شراك نعلك.
هل نملك بالفعل القدرة على أن نتحاور حوارًا صحيًا نتحرى فيه الوصول للحقيقة، ولأفضل الآراء والمواقف، أم نحن فى عراك لا ينتهى من أجل أن يستعرض كل منا معارفه ومواهبه الفريدة، التى لم تصل به إلى أبعد من موقعه، فى التشكيك فى كل شىء، والكفر بكل قيمة والتحذير من التفاؤل، أو الحديث عن الأمور بإيجابية، لا ندعى أننا نسكن فى أجمل مكان فى العالم وأننا فى خير حال، نرفل فى بحبوحة من العيش الهانئ.
نعلم أننا نعانى وضعًا صعًبا، ساهمت فيه كل الحكومات على السواء عبر أكثر من أربعة عقود، غاب معها المشروع الوطنى الجامع، ولم يعد لدينا ما نجمع الناس حوله سوى مباريات كرة القدم قبل الثورة، ومباريات السياسة ونقاشاتها العقيمة بعدها.
نعم لدينا أزمات فى الماء والهواء والغذاء، وترد فى الخدمات الصحية والتعليمية والسكانية، وغياب لرؤية اقتصادية تنطلق من انحيازات واضحة للفقراء والمهمشين، دون أن تسحق عظامهم تحت مطارق النيوليبرالية، لكن فى تقديري ليس هذا هو بيت الداء، الأخطر منه إن يصاب الإنسان فى عقله وقلبه، فيصبح غير راغب فى الحياة، فضلاً عن المشاركة فى البناء أو أن يكون جزءًا من الحل لا جزءًا من المشكلة.
أحدثكم عن ضحايا اليأس والإحباط، الذى يستثمر فى صناعته كل الفرقاء فى مصر، ولا يبخل الكثيرون منا بسكب الزيت على نار اليأس، وهذه بعض ثماره بالأرقام الرسمية فى جانب واحد من آثاره المباشر.
لدينا عشرون مليون مريض بضغط الدم، بينما أصيب عشرون مليون آخرين بالاكتئاب، وثمانية ملايين مريض بأمراض القلب، عشرون% من شبابنا تحت الأربعين يموتون بالذبحة الصدرية، وستة ملايين مواطن آخرين مصابون بأمراض نفسية متنوعة.
رفقًا بأنفسنا، كل الأمم تعرضت لكوارث أعادتها عشرات السنين للوراء ودمرت بنيتها التحتية وكل منجزاتها المادية، لكنها لم تقتل روحها ولا رغبتها فى الحياة ولا قدرتها على النهوض من جديد.
نحن أبناء ثقافة تنطلق من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل" إنها فسيلة نخل تحتاج لأعوام قبل أن يستوي ساقها، وأعوام أخرى حتى تثمر ثمرًا لن يجد من يأكله، ولكنها إرادة الحياة والعمل، والأمل الذى يبقى عنوانًا، وإن ذهبت الدنيا ونفذ الأجل.
لدينا ما يدعو لليأس، ولدينا أيضًا ما يدعو للأمل، وسندفع ثمن اختياراتنا على أى الأحوال وسيجنى أبنائنا أيضا هذا الثمن بعدنا فلنحسن اختيار الطريق.
يقولون جربنا الثورة وجربنا السياسة، الحقيقة إننا لم نجرب الثورة ولم نمارس أبدًا سياسة حقيقية، بل كانت علاقتنا بالاثنين علاقة عابرة على طريقة كأننا ثرنا، وكأننا مارسنا السياسة، نحن أدمنا الحديث عن أشياء لم يكن بيننا وبينها علاقة حقيقية، على طريقة التفكير بالتمني وطرق الباب دون انتظار أن يفتح لنا، يتسرب إلينا الملل سريعًا، لأننا دوما نضم انتظارًا سابق لكل انتظار جديد، دون أن نفصل بين الاثنين، لو جلست إلى أى مواطن تسأله عن حل مشكلاتنا سيقول لك التعليم والتنوير، نحتاج بالفعل أن نتعلم، وأظن أن جوهر أزمتنا فى اختياراتنا لحل مشاكلنا سواء اخترنا طريق الثورة أو فنون السياسة، أننا لم نسبق أيًا منهما بالتنوير الذى كان مهمة أحزاب غابت، ووزارات نامت عن المهمة طويلاً، لتترك العقل والوجدان المصرى ملقيان على قارعة الطريق، يتلقفهما كل عابر سلفيًا كان أم إخوانيًا أم يساريًا، أو غيرهم من أصحاب الخيارات الحدية، التى دفعنا ثمنها طويلاً فى هذا البلد.
إن استعادة العقل والوجدان المصرى المخطوف، وترميم الوحدة الشعورية لهذا الشعب أمر لا يحتمل التأجيل، إن استعادة الجينات الأصلية للمصريين من شهامة ونخوة وجدية فى العمل ورقى فى الذوق، أمر لا بديل عنه للنهوض من كبوتنا التى طالت.
هذا الوطن لم يعدم ولن يعدم من يحسن تشخيص آلامه وتقديم العلاج، وطاقة هذا البلد ممثلة فى شبابه ما زالت معطلة بين نزق الشباب وأثرة الشيوخ، واستعادة حيوية هذا البلد لن تتم سوى بتبكير عمر العطاء فى الخدمة العامة، لنجد البنيان السياسى المصرى فى المحليات والمحافظين والحكومة والبرلمان بنيانا شابا مفعما بالحيوية، البعض يتحدث عن هذا الأمر بأنه شكل من أشكال تمكين الشباب، فى إطار الحديث عن تمكين المرأة والأقباط وهذا إبتذال لايليق نحن لا نتحدث عن مجموعة من ذوى الاحتياجات الخاصة، بحاجة لرعاية الدولة وتمييزهم بل نتحدث عن أبناء وطن من كل الأعمار الشابة نساء ورجال يشكلون سبعين بالمائة من أبناء هذا الشعب، يجلسون طوال الوقت فى مقاعد الجماهير لمشاهدة مباراة يلعبها الشيوخ، ومطلوب منهم طوال الوقت تشجيع هذا الأداء، ورفع الصوت فقط بالثناء على لعب الكليل والعليل.
أيها الشباب لن يبنى هذا الوطن سواكم، ولن يرفع هذا الركام سوى سواعدكم الفتية، ستعزفون لحنكم، ولن تجلسوا مجددًا فى موقع الجماهير، ولن نبيع هذا الوطن لشيوخ يسعون لقبورهم.
هذا وطننا الذى سنغنى له معًا، وسنبنيه معًا على طريقتنا وسنخفف أوجاعه، ولن نتركه لنموت فى البحر أو فى أرض غريبة، قولوا بأعلى صوت ستبقى هنا، ولن نكفر بالوطن.
عدد الردود 0
بواسطة:
شريف الجندي
مقال محترم و كاتب مخلص
مقال محترم و كاتب مخلص