مسرحية «هاملت» التى هى من روائع شكسبير، والتى لا تزال هى الأروع فى العالم كله. وما كتب عنها من دراسات يمكن لو تم جمعه أن يملأ مكتبات كاملة، مبان قائمة بذاتها يمكن أن تمتلئ بما كُتب عن هذه المسرحية الخالدة، وفى كل مناسبة يمكن أن تجد فيها جملة أو عبارة تلخص لك ما حولك من أحداث.. بعد ثورة يناير وحتى الآن تقفز إلى ذهنى دائمًا عبارة «لو أن أحدًا عاد إلينا من هناك لعرفنا الحقيقة»، وهى عبارة قيلت فى مشهد حفار القبور وهو يحفر ليدفن «أوفيليا»، فراشة الجمال الإلهى التى غرقت، والتى «خلقتها السماء بنفسها وختمت عليها بختمها» كما قال «هاملت» عنها.
فى عبارة «لو أن أحدًا عاد إلينا» تلخيص لأزمة الموت والحساب والجنة والنار، ولأنه لا أحد يعود، فلا سبيل إلى الحقيقة هناك إلا بالإيمان، لكن يظل السؤال يعذب البشر من الفلاسفة والمفكرين. ورغم قيمة العبارة، ومكانها العظيم فى المسرحية، وما تشير إليه من قلق كونى لا يتكبده إلا القليلون، فإننى صرت أتذكر هذه العبارة كلما استقالت وزارة من الحكم فى مصر بعد ثورة يناير، كم وزارة الآن؟ لا أعرف. الدكاترة أحمد شفيق، ثم عصام شرف، ثم الجنزورى، ثم هشام قنديل، ثم حازم الببلاوى.. هل تولى الدكتور الجنزورى الوزارة مرتين؟ طبعًا لا، لكن اسمه يتردد دائمًا مع كل وزارة جديدة، مما يجعلنى أتصور أنه تولاها أكثر من مرة، كل وزارة أعلنت أنها ستنفذ مطالب الثورة.. طبعًا فبدون ثورة يناير لم تكن هناك هذه الوزارات، وكل وزارة تخرج دون أن تلبى مطالب الثورة.
كانت وزارة أحمد شفيق أقرب إلى الكوميديا، لأنها تمت فى عهد مبارك نفسه، ومن ثم لم يكن هناك معنى لاستمرارها بعده، رغم شياكة الرجل وأدبه. وكانت وزارة عصام شرف أشبه بدراما اليأس والملل «فى انتظار جودو» الذى لا يأتى أبدًا. وكانت وزارة الجنزورى أقرب إلى التراجيديا، ففى عهده حدثت مقتلة مجلس الوزراء، رغم أن الرجل لم يخف شيئًا من المعلومات عن الشعب، وقرر وحدد أسهل مطالب الثورة، الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور، وبدا جادًا، وكانت المناقشات حول النسبة التى حددها للأقصى قياسًا على الأدنى، لكن الرجل أقيل من الوزارة، أو استقال- فلا فرق- بعد وصول مرسى إلى الحكم. وجاء قنديل لينتقل إلى مرحلة «الفارس»، أى الكوميديا الهزلية كما قلت، فكان أكبر اكتشافاته أن نساء بنى سويف لا يغسلن حلماتهن بعد إرضاع أطفالهن!.. وعُزل محمد مرسى ورجاله، وجاء الدكتور الببلاوى فعدنا إلى التراجيديا من جديد، لكن هذه المرة بسبب عدم اعتراف جماعة الإخوان ومن حالفهم بما جرى فى 30 يونيو، وخلال هذه التراجيديا التى لم تخلُ من أخطاء للنظام أيضًا، وعد الرجل أن يكون يناير موعد تطبيق الحدين الأدنى والأقصى للأجور، وجاء يناير ولم يتحقق ما وعد به، فانفجرت الإضرابات العمالية، فخرج الرجل من الوزارة بشكل مفاجئ. ورغم يقينى بأن وزارته كانت محملة بأعباء كبيرة جدًا فى قلب الإرهاب الذى يحاصرنا، فلقد كنت أنتظر من الرجل أن يفى بوعده فى أقل هدف من أهداف الثورة، أقل هدف من أهداف العيش والعدل، لكنه لم يكن وحده.. لا وزارة واحدة استطاعت أن تفعل ذلك، رغم أن كل وزارة تعلن أن ذلك من أولوياتها.
أكاد أقول إن الجنزورى هو الوحيد الذى كان سيفعل لولا أنه أقيل أو استقال بعد نجاح مرسى، فلا فرق كما قلت، لكن مما جرى من غيره ربما أيضًا لو لم يترك الوزارة كان سيعود ولا يفعل ذلك، ثم يُقال أو يستقيل! أقول ذلك لأن أحدًا لم ينفذ هذا المطلب السهل جدًا، والذى بدا الآن أبعد الأهداف عن التحقق.. كيف حدث ذلك وكيف يحدث؟.. لا يمكن أن تكون ميزانية البلاد عاجزة عن ذلك، خاصة أن كل خبراء الاقتصاد قالوا إنه ممكن، وإن تقليص الحد الأقصى نفسه سيتيح مبالغ كبيرة يُستفاد منها فى رفع الحد الأدنى.. والذين يعرفون الدكتور الجنزورى يعرفون أنه لا يقول أرقامًا وهمية، وأن ما قاله عن إمكانية ذلك يعنى إمكانية ذلك، إلا إذا تمت عرقلته، والأمر نفسه فى حالة الدكتور الببلاوى.. أنقذ الجنزورى من اللوم على عدم تحقيق ذلك بانتخاب محمد مرسى، فبدا طبيعيًا أن يستقيل مفسحًا المجال لرئيس وزراء يريده الرئيس الجديد، لكن الببلاوى لم يفز بهذه الفرصة، وسواء استقال هو لأسباب لا تقال، أو لفداحة المهام المطلوبة منه كما أشار، أو أقيل، فالواضح أن الرجل لم يستطع تنفيذ ما وعد به فى أتفه الأمور، وهو الحدين الأدنى والأعلى. كيف اجتمع كل هؤلاء على العجز عن الوفاء بذلك؟.. هذا هو السؤال الذى يعود بى إلى «هاملت». ورغم أنهم يعودون إلينا من الوزارة، فإنهم أيضًا لا يقولون لنا الحقيقة. صارت رئاسة الوزراء مثل العالم الآخر، الفرق أنهم يعودون، لكن يتفقون على أنه لا أحد يقول الحقيقة، وهذا وضع أصعب، لأنهم عاشوها ورأوها.
مَن أيها السادة يحكم هذه البلاد؟ ومَن أيها السادة يرفض مطلبًا تافهًا مثل الحدين الأدنى والأقصى؟.. قد ينسى البسطاء كل المطالب السياسية الأخرى! اتفقتم كلكم على أهمية ذلك، واتفقتم كلكم على عدم التنفيذ، فهل هذا أمر طبيعى؟.. رئاسة الوزراء مثل العالم الآخر، تبدأ بوعود الجنة، وتنتهى بسرعة رهيبة إلى آلام الجحيم، ولا أحد يقول الحقيقة.. لقد كان هذا أول ما خطر ببالى بعد استقالة الدكتور الببلاوى، وفى الحقيقة لم أقتنع بأى سبب يقوله غير أنه عجز عن تنفيذ وعده، لأن هناك من لا يريد ذلك، أو لا يساعد عليه.. لا شىء يجبر الرجل على اللعب على الناس، فهو يعرف أنه سيترك الوزارة آجلًا أم عاجلًا بحكم سنه- أطال الله فى عمره- وبحكم الانتخابات الرئاسية التى ستحدث قريبًا.. كدت أكتب تقريبًا!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة