هى الدنيا التى نختار فيه أحباءنا، لكننا لا نختار فيها لحظة فراقهم الأبدى حين تصعد الأرواح إلى بارئها، هى الدنيا التى نخطو فيها نحو الأمل، والعمل، والحزن، والفرح، والانتصار، والانكسار، لكننا لا نعرف المقسوم لنا والمكتوب علينا، هى الدنيا التى نرى فيها الصالحين والطالحين، لكننا لا نعرف سر النهايات المبكرة لمن يبذرون الأرض بركة ومحبة وهناء وقناعة، لكنها إرادة الله التى لا رد لها ولا عليها، هى الدنيا التى نصول ونجول فيها وكأننا نعيش أبداً، لكنها تنتهى فى لحظة وكأن المسافة بين البدء والمنتهى ثانية واحدة.
لا شىء يثبت أن الإنسان يحب الحق والخير والجمال، غير ما يجود به فعلا وقولا دون صخب ونفاق، ولا شىء يثبت أن المرء لا تزغلله مفاتن الدنيا ومباهجها ولايقع تحت غواية السلطة، إلا فعله القنوع الذى لا يهدأ من غرسه فى الأرض فيطرح صدقًا، لا شىء يثبت قوة الإنسان أكثر من قدرته على فضيلة الاستغناء رغم ضغط الحاجة وقسوتها.
هكذا كان عزازى على عزازى، الجميل الذى فقدناه بكل أسى قبل أيام، كان يجود فعلاً وقولاً دون صخب ونفاق، كان يعطى بيمناه دون أن تدرى يسراه، كان يغرس الأرض قناعة فيطرح صدقاً، كان يأتينا دون إذن أحيانا، لكن نتأكد أنه جاء فى الموعد الذى نحتاجه فيه، هى نفحة من الله فى خلقه الذين وهبهم لفك كرب الناس، وهى من شيم البشر الذين لا نستغنى عنهم أبداً، عاش بشعار: «الصدق أقصر طريق إلى القلب»، فسكن القلوب، واستغنى عن أبهة السلطة بإرادته وترك منصبه كمحافظ للشرقية، ولهذا ترك سيرة لن تشيخ.
فى عزائه أمس الأول، كانت مصر حاضرة، كنت واقفا مع العشرات أتلقى العزاء فيه، وكنت بجوار الدكتور عمرو حلمى، وزير الصحة الأسبق، فهمس فى أذنى: «مين مجاش العزا من الـ90 مليون»، كانت همسة الدكتور عمرو حلمى تعليقا على زحام الحضور، وعلى قوافل الناس التى ظل حضورها متواصلاً طوال فترة العزاء.
جاءت السلطة ممثلة فى رئيس الوزراء إبراهيم محلب، كما حضر ممثل عن رئيس الجمهورية، وحضر وزراء ومحافظون، وحضرت أطياف المعارضة، وحضرت رموز سياسية عديدة من أحزاب ومستقلين، حضر مفكرون وفنانون وصحفيون وإعلاميون وسياسيون، وحضر شباب وشيوخ، حضر مشهورون ومنسيون، حضر عمال وفلاحون وموظفون، حضر الشعب المصرى الذى ينكر من ينكره، ويعطى محبته بلا حدود لكل من يصدق معه، وعزازى من هؤلاء.
لم يكتسب «عزازى» قيمته الشخصية من أنه شغل يوما منصب محافظ حتى يظن البعض أنها سبب سير الآلاف وراء نعشه فى بلده «إكياد» محافظة الشرقية، وسبب زحام عزائه أمس الأول بمسجد عمر مكرم، فهو قبل وفاته كان ينطبق عليه «حالة المسؤول السابق»، وما أدرانا من صاحب هذه الحالة الذى لا يرى الدنيا إلا من خلال تواجده فى السلطة.
مشى الآلاف فى جنازته وحضروا إلى عزائه، لأنهم أحبوه كشخص قبل السلطة وبعدها، ولأنه دخل السلطة فقيراً يكسب قوته بكده وعمله، وخرج منها نظيفًا طاهرًا، يدعو الله أن يكمل أيامه بالستر.