نجح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بدهائه الاستخباراتى، فى التعامل السريع، والمفاجئ مع الأزمة الأوكرانية، فى اللحظات الأولى من تصاعدها، فى الوقت الذى تأخر الأوروبيون والأمريكيون وتباطأوا فى التعامل مع الأحداث فوجدوا أنفسهم فجأة أمام ورطة كبيرة.
من اللحظة الأولى لإعلان البرلمان الأوكرانى عزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وبعدها بساعات قليلة جمع الرئيس بوتين مجلس الأمن القومى الروسى، وتقدم على الفور للبرلمان بطلب تفويضه فى استخدام القوة العسكرية لحماية مصالح ومواطنى روسيا فى شبه جزيرة القرم، وفى نفس الوقت والساعة أصدر أوامره للجيش الروسى لبدأ مناوراته العسكرية المكثفة بالذخيرة الحية على الحدود الغربية بالقرب من أوكرانيا، وعلى الفور منحه البرلمان الروسى التفويض ليوجه بوتين أوامره لقوات الأسطول الروسى فى شبه جزيرة القرم للتحرك الداخلى وفرض السيطرة الكاملة على شبه الجزيرة، ولم يستغرق الأمر أكثر من ثمانية وأربعين ساعة حتى كان القرم كله بمدنه ومطاراته وشواطئه وكافة القواعد العسكرية الموجودة على أراضيه خاضعا لروسيا وبموافقة وتأييد كامل من شعب القرم وحكومته التى طلب رئيسها سيرغى أكسيونوف بنفسه من الرئيس بوتين التدخل بالقوة فى القرم لحماية المواطنين الروس، الذين يشكلون أكثر من سبعين فى المائة من سكان القرم، وعندما تأكد بوتين من أن القرم أصبح تحت السيطرة تماما ومؤمنا من كافة حدوده ضد أى تدخل من الخارج، أصدر أوامره بوقف المناورات العسكرية وعودة الجيوش الروسية لثكناتها، وهكذا فرض بوتين على الأرض واقعا لم يكن يتوقعه الأوروبيون والأمريكيون، ووضعهم فى ورطة وحيرة كبرى من أمرهم أدت إلى تضارب مواقفهم تجاه التعامل مع روسيا وفرض عقوبات عليها، فانقسموا بين معارض ومؤيد.
من المعروف أن أوكرانيا الدولة الكبيرة التى يسكنها قرابة خمسين مليون نسمة، تعانى من أزمات اقتصادية حادة ومستمرة على مدى العقدين الماضيين، منذ انهيار الاتحاد السوفييتى، ويعانى الشعب الأوكرانى من الفقر المنتشر فى كل البلاد ومن البطالة التى تعدت نسبتها الأربعين فى المائة، ولا تجد أوكرانيا ثمن الغاز الذى تستورده من روسيا، وتعيش مناطق كثيرة فيها فى البرد القارس شتاء، بدون تدفئة بسبب نقص الإمدادات، وباعتبارها بلدا زراعيا أكثر منه صناعيا فإن منتجاتها الزراعية تعتمد فى الأساس وبنسبة أكثر من 70% على السوق الروسية، كما أنها تعانى من تركة ديون هائلة لجهات خارجية عديدة تجعل حكوماتها غير قادرة على تلبية أبسط مطالب شعبها، ولم تُحسّن النسخة الثانية من الثورة البرتقالية التى اندلعت فى كييف الشهر الماضى الوضع الاقتصادى فى أوكرانيا، بل تسببت فى شلل إدارة البلاد، وسوء تنظيم الحياة وتراجع قيمة العملة الأوكرانية "الغريفنا"، ولم تبق فى الخزينة موارد لدفع المصروفات الجارية اليومية وليس الأسبوعية أو الشهرية، وأصبحت البلاد مهددة بالإفلاس والانهيار الاقتصادى، وأكد رئيس الوزراء الجديد وقائد الانقلاب أرسينى ياتسينيوك أن الدين العام بلغ 75 مليار دولار، كما تحتاج البلاد إلى 12 مليار دولار، للمصروفات الجارية الحكومية ولبضعة شهور قليلة، ولا تجدى فى شىء المليار دولار التى وعد بها وزير الخارجية الأمريكية جون كيرى، فى شكل قرض سريع سيعطى على خمس دفعات على مدى عام، بل المتوقع أن تذهب فى جيوب وحسابات الانقلابيين الفاقدين الأمل فى البقاء فى السلطة ولو لشهر واحد أمام الاحتجاجات التى عمت مدن أوكرانيا جميعها خلال الأيام الماضية رافضة للانقلاب غير الشرعى فى كييف.
بديهى أن دولة مثل أوكرانيا بمثل هذه الظروف السيئة للغاية لا تغرى واشنطن ولا الأوروبيين والاتحاد الأوروبى فى أى شىء ، بل أن ضمها للاتحاد الأوروبى بظروفها هذه يعتبر شبه مستحيل، ولا يمكن لدول أوروبا التى تعانى معظمها من نسب بطالة عالية أن تفتح أبوابها لملايين الباحثين عن أية فرصة عمل للقادمين إليها من أوكرانيا، كما أن الأسواق الأوروبية لا يمكن أن تفتح أبوابها للمنتجات الزراعية الرخيصة القادمة من أوكرانيا لتضرب المنتج المحلى الأوروبى المرتفع الثمن، فى ظل هذه الظروف والمعطيات فإنه من البديهى أن الأوروبيين والأمريكيين الذى مازالوا يعيشون تداعيات الأزمة المالية العالمية ويعانون من أثارها الكارثية التى أدت إلى إفلاس أكثر من دولة أوروبية، لم يكونوا يريدون ضم أوكرانيا وجذبها من تحت العباءة الروسية من أجل أن ينعشوها اقتصاديا ويحلوا لها أزماتها، بل كان لهم هدف استراتيجى آخر بعيد تماما عن معاناة ومشاكل أوكرانيا وشعبها، هذا الهدف هو الاستيلاء على شبه جزيرة القرم وطرد الأسطول الحربى الروسى من مياه البحر الأسود التى يتحرك من خلالها بحرية إلى كافة بحار ومحيطات العالم، وهذا لا يتأتى لهم سوى بتغيير النظام الحاكم فى أوكرانيا بالقوة بعد أن فشلوا فى استقطابه تحت العباءة الأوروبية.
خطة بوتين فى فرض الهيمنة الروسية وبسرعة على شبه جزيرة القرم أوقعت الأوروبيين والأمريكيين فى ورطة كبيرة لا يعرفون كيف يخرجون منها، ولا يدرون حتى الآن ماذا سيفعلون بأوكرانيا الكبيرة الفقيرة المنهارة اقتصاديا، وكل ما يطلق من تصريحات ووعود أمريكية ليس إلا كلاما فارغا وغير قابل للتنفيذ على أرض الواقع، ولهذا فلينتظروا الثورة الشعبية الأوكرانية القادمة لهم من الشرق والجنوب الذين تسكنهما نسبة 80% من الشعب الأوكرانى، والذين يشعرون بالانتماء لروسيا دينيا وثقافيا وتاريخيا وأيضا اقتصاديا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة