ناجح إبراهيم

العلامة د. كمال أبوالمجد.. جامع الحضارتين

الخميس، 13 مارس 2014 06:07 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تحدثت فى المرة السابقة عن العلامة د. أحمد كمال أبوالمجد الذى يعد من القلائل فى مصر الذين جمعوا فى صدورهم وعقولهم العطاء الحضارى العظيم للحضارة الإسلامية، ومعها النافع والجيد من عطاء الحضارة الغربية، ومزجهما بخلطة سحرية عجيبة لا تتأتى إلا لأمثاله وأقرانه، وهم قليل نادر فى هذا الزمان.
وقد نشأ د. كمال أبوالمجد- كما حكى لى- فى أسرة علمية إسلامية وفقهية عريقة، إذ إن والده كان رئيسًا للمحكمة الشرعية، أما خاله الشيخ حسنين مخلوف فكان مفتيًا للديار المصرية، وهو مَن هو فى العلم والخلق والفقه، وكان جده لأمه شيخًا للجامع الأحمدى فى طنطا، وكان فى المكانة التى تلى شيخ الجامع الأزهر مباشرة، لما كان يتمتع به هذا الجامع العريق، كونه منارة للعلم والعلماء تضاهى الجامع الأزهر نفسه.
وكان خاله الشيخ مخلوف، رحمه الله، يعهد إليه وإلى ابن خاله سفير الخارجية السابق بترتيب مكتبته، فيظل يعمل فى ذلك أسبوعًا أو أكثر، فينظر فى هذا الكتاب فيقرأ فيه شيئًا.. والآخر فتعجبه حكمة.. وهذا الكتاب فيحفر فى قلبه وعقله شيئًا.. وهكذا حتى أحب الكتب والعلم، وأصبح عاشقًا لها.. وكان بينه وبين أقرانه سباق عظيم فى العلم والتعلم وقراءة الكتب، حتى أنه تحدى نفسه وأقرانه مرة وقرأ كتابًا كاملًا للشاعر المهندس على محمود طه اسمه «أغنية الرياح الأربعة» من الصبح إلى العصر فى الفجالة.. وكما قال لى: «كانت للقراءة قيمة عظيمة فى عهدنا»، وهذه القيمة لا يعرفها شباب اليوم الذى يتسابق مع غيره فى معرفة اللاعبين والأفلام والأغنيات وتفاهات الـ«فيس بوك» وغيرها.
وقد كان لوالده القاضى الحازم دور كبير فى تعليمه وتوجيهه وتربيته على معانى الاعتزاز بالنفس دون كبر أو شموخ، والتواضع دون مذلة أو هوان، والتلطف مع الناس.. ففى إحدى المرات رآه والده يقبل يد خاله، مفتى الديار، فقال له: «لا تقبل يد بشر مهما كان.. وعلمه كيف تكون النصيحة».
ومن الطريف أن د. كمال أبوالمجد أراد أن ينصح الشيخ مهدى عاكف- فك الله أسره- بالتريث فى كلامه، والتدقيق فيه، وذلك بعد أن كرر كلمة «طظ فى مصر» عدة مرات أمام الصحفيين، مما أثار الرأى العام المصرى عليه، وكان وقتها مرشدًا عامًا للإخوان، فاستغل د. كمال وجوده فى سرادق عزاء وجلس إلى جواره ليقول له: «أنا وأنت كبرنا فى السن، وبلغنا من الكبر عتيا، وهذا يجعلنا نقول أشياء كنا نتمنى ألا نقولها، وعلى أمثالنا أن يعطى فرصة للأجيال الجديدة الرائعة لكى تتحدث هى إلى الإعلام والصحافة».
وكان أكثر ما يأخذه على الإخوان أنهم يقيّمون الناس بحسب مراتبهم ومكانتهم فى التنظيم، وكان يعتبر هذا التقييم والميزان غير عادل، فقد خرج د. كمال أبوالمجد من تجربته الطويلة مع تنظيم الإخوان إلى أنه يحدث كثيرًا أن يكون إدراك بعض الأتباع والجنود فى التنظيم أعلى وأوسع بكثير من قادتهم التنظيميين.
ومن أبرز ما يميز د. كمال أبوالمجد حسن تألفه للناس، وتآلفه معهم، وإكرامه ضيوفه، وأنه «ألف أليف» يألف الناس سريعا ويألفونه، ويحب الناس جميعًا ويحبونه.
وقد أعجبنى فيه أنه لا يعرف الكراهية لأحد، ولا يحمل حقدًا لأحد، فقد وجدت فيه عقل العلماء العظام، وقلب الأطفال الأبرياء المبرأ من كل دخن ومكر مع خلق كريم يأبى الفحش أو التفحش أو الإساءة حتى لمن يسىء إليه.. ومن كلماته التى حفظتها عنه «خلق النبى كان سلاحًا قويًا فى الدعوة إلى الله، وهو سلاح أقوى وأمضى من كل أسلحة الدنيا»، وقد تعلم د. كمال أبوالمجد من خاله العلامة المرحوم حسنين مخلوف كيف يجير المظلومين، ويقف إلى جوارهم، فقد حكى لى أنه فى شبابه كان يذهب مع أسرته ليعيش عند خاله المفتى فى فيلته بحلوان فى الخمسينيات، وقت أن كانت حلوان لا تعرف التلوث ولا الضوضاء، فوجد رجلًا غريبًا يعيش باستمرار هناك، وليس من قرابة الأسرة، وعلم بعد ذلك أنه من السياسيين المطلوب القبض عليهم، واسمه «سيد»، وأنه هارب من بطش السلطة، وتعلم من هذا الدرس ألا يسأل عما لا يعنيه، وأن يعيش بقلبه وجوارحه مع قوله تعالى «لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ»، بما فى هذه الآية من معان رائعة.
لقد تعلمت من د. كمال أبوالمجد وغيره من أمثال الشيخ محمد الغزالى، وسيد سابق، ود. سليم العوا أن الداعية والمفكر الإسلامى لن يستطيع أن يحيا بين جدران تنظيم أو حزب أو هيكل يحبس فكره، ويحول بينه وبين انطلاق عقله، أو يؤممه لصالح فصيل صغير، أو يحوله من داعية إلى الله، إلى داعية للتنظيم، ومن داعية يضم الناس إلى ربهم، إلى حزبى أو تنظيمى يضم الناس إلى حزبه وتنظيمه.
ومما تعلمته من د. كمال أبوالمجد أن «الداعية الذى لا يحسن الابتسام لا يصلح كداعية، وعليه أن يبحث عن مهنة أخرى».. ولما بحثت فى السيرة النبوية وجدت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائم البشر والابتسام، رغم كثرة العقبات والصعاب التى واجهته فى حياته.
ومن أهم ما تعلمته منه أن الذى يبدأ تدينه بالعزلة عن الناس يتعلم كراهية الناس والحياة، ثم يقيم مع أقرانه حربًا باردة فى نفسه للآخرين، خاصة مخالفيه، فيحاكمهم ويقسو عليهم فى حكمه، وقد يصف مجتمعه بالجاهلية، أو يكفر ويفسق ويبدع من يخالفه الرأى أو الموقف السياسى.
ومن أهم ما تعلمته منه أنه على الداعية أن يراعى حاجات وأحوال وواقع من يخاطبهم، وهو ما يطلق عليه العلماء فى الفتوى «تفريد الفتوى»، أى ضرورة استجابة الفتوى وتفاعلها مع حال السائل، وهذا هو حال النبى صلى الله عليه وسلم فى فتاواه ودعوته.
فمن عبقرية النبى صلى الله عليه وسلم الدعوية سماحه للأحباش أن يرقصوا ويغنوا فى بيت النبوة، وقريبًا من مسجده الشريف، وحينما اعترض عمر بن الخطاب على ذلك لم يقبل اعتراضه، وقال: «دعهم يا عمر»، بل أذن لزوجته الصغيرة الشابة عائشة أن تنظر إليهم حتى اكتفت، مراعاة لسنها.. فهل ينتبه المتشددون والمتنطعون فى كل زمان لمثل هذه المعانى الرائعة التى أدركتها عائشة وهى تقول «فاقدروا قدر الفتاة الحديثة السن الحريصة على اللهو... »؟ وهل يسع هؤلاء حقًا ما وسع النبى صلى الله عليه وسلم من التيسير المباح الجميل؟
وفى الحقيقة فإن معنى تفريد الفتوى والقضاء، قرأته كثيرًا من قبل، ولكن لم أدرك ارتباطه بالدعوة إلى الله إلا من أستاذى د. كمال أبوالمجد الذى يعلمك بطريقة «السهل الممتنع»، فيسوق إليك المعانى دومًا فى صورة حكايات بسيطة يظنها العوام من حكاوى القهاوى، لكن العلماء يعرفون أن وراء كل قصة معنى، ووراء كل تعبير حكمة دفينة لا يدركها إلا من انشغل قلبه وفؤاده بالدعوة الإسلامية.. إن أكبر ما اهتم به فكر د. كمال أبوالمجد هو الاهتمام بالغايات الكبرى للإسلام وقضاياه العظمى، وتقديمها على القضايا الجزئية أو الوسائل والآليات، وكذلك اهتمامه بمقاصد الشريعة وإنزالها مكانتها العظيمة، ودائمًا ما يكرر فى كل مقالاته وأحاديثه كلمة الشاطبى، عملاق الإسلام العظيم: «إن تكاليف الشريعة ترجع كلها إلى تحقيق مقاصدها فى الخلق».
وهذا ما يغيب عن أكثر الدعاة إلى الله.. فالصلاة «تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ»، فإن لم تنه صاحبها لم تحقق مقصودها.. والصوم مقصده « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، فمن صام ليزداد شتمًا وسبًا ورشوة وفسادًا لم يحقق مقصود صيامه.. وهكذا.
أما الآن، فإن الأحكام تنفصل فى حياتنا عن غاياتها، والعبادات تنفك عن مقاصدها، ولذلك تجد التدين المصرى والعربى لا أثر له فى واقع الحياة المصرية والعربية التى تنتقل من سيئ إلى أسوأ.. وفى الأسبوع القادم نستكمل القراءة فى فكر أستاذى العلامة د. كمال أبوالمجد.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة