لقد كان النص القرآنى واضحا فى ترسم خطوات الاعتدال من قلب وصايا الاستقامة، وهو يقول للنبى الكريم صلى الله عليه وسلم «فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا، إنى بما تعملون عليم»، وقد رسم النبى صلى الله عليه وسلم خطا مستقيما على الأرض، ورسم خطوطا أخرى متعرجة وغير مستقيمة، وتلا قول الله سبحانه «وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن طريقه»، الاستقامة وما تحتاجه من يقظة دائمة لعدم الخروج عن الطريق المستقيم قد تدفع إلى الغلو والتطرف والإفراط، لهذا جاء التوجيه القرآنى بعد الأمر بالاستقامة بعدم الطغيان، شدة التعبد والرغبة فى اتباع النبى، دفعت البعض ممن عاصروا النبى صلى الله عليه وسلم إلى اتباع التشدد بالإعلان عن الزهد والتقشف، فقال أحدهم إنى لا أنكح النساء، وقال آخر وأنا أصوم الدهر، وقال ثالث وأنا أقوم الليل كله، فعلم معلم الناس الخير هؤلاء والبشرية من ورائهم أن هذا السلوك المتشدد ليس من التدين الحقيقى، وإنما هو من التدين المغشوش، وأوضح أنه يصوم ويفطر، ويقوم وينام، وينكح النساء. ولقد كان الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه ملتزما بالنهج الوسطى الذى ورثه وتعلمه من رسول الله صلى الله عليه فى فتنة الخوارج، الذين رفعوا شعار إن الحكم إلا لله، وقال عنهم هم إخواننا بغوا علينا، وأمر بقتالهم دفعا لضررهم وبالقدر الذى يكفى لرد الاعتداء، فإذا ما أوقفوا قتالهم أوقف قتاله، تلك معالم لاستراتيجية ضرورية تعمل على دفع غلواء التطرف والغلو والتكفير، نحتاج إلى وضع بلورة واضحة لها فكريا وشرعيا وسياسيا، حتى نتمكن من لملمة كل الطاقات الممكنة فى صفوف الأمة، وهى تبحث عن موضع قدم لها بين الأمم الكبرى، وحتى نجنب بلادنا شرور الفرقة والتوتر والاستنزاف.
إعادة الاعتبار للإسلام فى بلاد المسلمين:
وتلك مهمة تحتاج إلى جهاد كلمة وفكر أصعب بكثير من الجهاد بالمعنى العسكرى، الذى يحصر بعض المتشددين فهمه وعمله فى حدوده، لن يكون للإسلام نصيب حقيقى من المهابة والاحترام فى الخارج، ما تتمكن الفصائل التى ترفع لواء الوسطية من ترسيخ مبدأ احترام الإسلام، وإعادة الاعتبار لدوره فى الحياة العامة وشرائعه ومنظومته القيمية فى الداخل، وهنا لا يعنى قصر المهمة على التيار الوسطى استبعاد التيارات الأخرى من فصائل الحركة الإسلامية، بل يعنى أن النجاح فى هذه المهمة مرهون بعوامل عديدة فى مقدمتها القدرة على إقامة توازن بين التقدير الواجب للإسلام كمرجعية، وبين الفضاء الواسع الذى يعتقد هذا التيار أنه مقبول شرعا تحت سقف الشريعة، دون تغليب لموقف مذهبى أو اختيار فى قضية خلافية.
وإعادة الاعتبار للإسلام فى داخل العالم الإسلامى يفرض على من يتصدى له أن يبذل الجهد على جبهتين: الأنظمة الحاكمة وفى بنيتها تأثيرات واضحة من التراث السياسى والثقافى الأوروبى، تجعلها تتخوف من الدور المجتمعى والثقافى والسياسى للإسلام، وتفضل تطويعه لخدمة أغراضها السياسية أو تهميشه تهميشا تاما، الجبهة الثانية هى جبهة المثقفين المتغربين الذين ينظرون للإسلام بمنظار استشراقى يتراوح بين الحياد البارد والعداء الساخن!
وغنى عن البيان هنا أن التزيد والتشدد فى التصور ينتج عنه تشدد فى الفعل، ما يؤهل التيار الوسطى لدور كبير فى هذه المهمة، حيث تستجيب الفطر الإنسانية دائما لمنطق الرفق واللين والرحمة بأكثر مما تستجيب لداعى التزمت والتضييق.
تأسيس النهضة الجديدة
وتأتى فى الأهمية تاليا مباشرة قضية إعادة تأسيس مفهوم النهضة على أساس يقيم وزنا أكبر لقضية الإبداع كميدان للجهاد لنصرة الإسلام، بحيث تتحول الطاقات الفاعلة فى الأمة من التفكير فى مواجهة الآخر بشكل واحد ووحيد توسع أفق نظرته صوب إبداع فكر وثقافة وعلم وتقنية وفن تدفع الآخر دفعا لأن ينظر للإسلام نظرة أكثر توقيرا، إذ تنعكس عظمته فى إنجازات أبنائه، فالإنجاز كمعيار للسعى لنيل رضا الله سبحانه وتعالى هو المعطى الذى يمكن أن يركز التيار الوسطى خطابه وعمله عليه.
فالتخلف عدو للأمة فى المفهوم الوسطى، وهو وفق هذا المنظور عدو لا يقل خطرا عن أعداء الخارج، دولا كانوا أو حركات ذات نفوذ دولى، تستهدف الإسلام، فالخروج من شرنقة التخلف فى الداخل يسبق الطموح لمنازلة أعداء الخارج. وهنا تصبح الأمة كلها قادرة على المشاركة فى صنع النهضة والقيام بفريضة الجهاد، كل حسب طاقته وفى المجال الذى يستطيع أن يبدع فيه، واتساع المفهوم يعنى اتساع جبهة الجهاد، وإتاحة الفرص لمختلف الطاقات التى يستبعدها المفهوم المتشدد للجهاد.
الفكرة قبل الفعل:
ومن المفاهيم الرئيسة فى التصور الوسطى للنهضة الجديدة، أن الفكرة تسبق الفعل، ويترتب على هذا بالضرورة حقيقة أن أهل الذكر والذين يعلمون أجدر بمقعد القيادة من أهل الحماس، وبالطبع فإن لكل منهما دوره وفضله، لكن اختلال العلاقة بين الحماس والعلم، يؤدى لتبديد الجهود وأحيانا يؤدى لكوارث يحتاج إصلاح آثارها إلى الكثير جدا من الجهد فالنوايا الحسنة وحدها لا تضمن نجاح المسعى، بل يجب بذل أقصى الطاقة للأخذ بالأسباب الدنيوية حتى تطير النهضة بجناحين.
وإعادة التوازن للعلاقة بين الفكر والفعل يفتح الطريق أمام الأكثر كفاءة ليحتل موقعه الذى يستحقه، وفى الوقت نفسه يفتح الباب أمام كل متميز لأن يطمح إلى أن يخدم دينه، مطمئنا إلى أن عمله سيكون موضع تقدير حقيقى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة