قيل لسلمان الفارسى «ما يُكرهُك الإمارة؟» قال «حلاوةُ رضاعها ومرارةُ فطامها». كنتُ أتعجب ونحن نرفع شعار كفاية الشهير «لا للتمديد ولا للتوريث» كيف يسعى مبارك للتمديد لفترة رئاسية خامسة ( ثم سادسة) وقد تخطى الثمانين من عمره وأقول ألا يكفيه ما فات؟ لماذا لا يتيح الفرصة لغيره فتجرى دماء جديدة فى عروق الوطن بدلاً من تجلطها؟ ولكننى عندما اقتربتُ من سن الستين تفهمتُ ما فعله مبارك (وإن لم أعذره). فقد تعودتُ فى مسارى الوظيفى أن أترك المناصب منقولاً أو مطروداً دون أن أشعر بمرارة فطامها، إذ كنتُ أعتبر أن سن الفطام الوظيفى هو الستون (لا قبل ذلك). وقد مكثتُ فى آخر منصب قيادى لى حوالى ثلاث سنوات (مركز إعداد القادة لإدارة الأعمال بالعجوزة). وقبل المعاش بحوالى ثلاثة أشهر بدأتُ أستملح مبررات الكثيرين من الأصدقاء والمرؤسين (صدقاً أو محبةً أو نفاقاً) لضرورة السعى لمد خدمتى عامين إضافيين (قابلين للتكرار)، تارةً بحجة الحفاظ على النجاح الذى تحقق، وتارةً بحجة أن مدّ الخدمة لرؤساء المؤسسات (لما بعد السبعين وليس الستين) صار هو القاعدة المتبّعة فى السنوات الأخيرة، وتارةً بحجة استقرار المؤسسة لأن لا أحد يصلح لحمل هذه المسؤولية.. تداخل ذلك مع وسواس داخلى مُقلق: كيف سأتكيف مع الانخفاض الحاد فى دخلى الذى لا دخل لى غيره؟ وكيف سأُطيق المكوث فى البيت بعد عمر من العمل المتواصل (حتى فى سنوات العزل والحصار بعد بلاغ عمر أفندى لم أشعر بالفراغ لانخراطى فى حركات المقاومة).. وأُصارحكم القول بأننى شيئاً فشيئاً كدتُ أستكين لنفسى الأمّارة بالمد.. إلى أن جاءت لحظة الحقيقة لأوّقع المذكرات الخاصة بطلب مدّ الخدمة.. فلم يطاوعنى قلمى.. وغالبتنى نفسى وغالبتُها شهراً كاملاً حتى غلبتُها، وحولتُ المذكرة إلى إخطار بخلو المنصب، ثم اعتذرتُ للمسؤولين الكبار الذين حادثونى فى نفس الموضوع.. كان الحياء هو الدافع وراء قرارى.. فقد استحيتُ من نفسى أن أُناقض الشعار الذى قاومنا تحته مبارك (لا للتمديد).. واستحيتُ من ربى الرزاق الذى جرّبتُه كثيراً أن أخشى الفاقة وأنا عبده وهو ربى الذى لا تنفد خزائنه.. وها قد خرجتُ إلى المعاش منذ شهر ولم يحدث ما وسوست به نفسى.. فلا المؤسسة انهارت، بل على العكس دبّت فيها روح جديدة.. ولا النجاح الذى تحقق ضاع، بل على العكس تبدو بداياتُ بناء على ما تحقق (مثلما بنينا على بناء سابقينا).. ولا معين القيادات كان ناضباً، بل على العكس لعل وجودى كان يحجب كفاءات ما كانت لتُكتشف إلا بعد أن تتحمل المسؤولية كاملةً (كما تحملناها من قبل).. ولم أشعر بالبطالة بعد، بل على العكس أشعر بالتحرر من قيد عمل انحصرت جهودى فيه خلال السنوات الأخيرة إلى آفاق قد تكون أوسع لخدمة الوطن الذى أحببته.
ومن الخاص إلى العام، عودة إلى حديث سلمان الفارسى.. ففى ثناياه تحديد للفترة المثالية للبقاء فى المنصب القيادى.. عامان كحد أقصى (من الرضاعة للفطام) وما زاد على ذلك استثناء أو حالة مرضية.. وهو ما تعودنا عليه فى القوات المسلحة (مدرسة الإدارة فى مصر).. حيث لا يبقى قائد الوحدة فى منصبه أكثر من هذه الفترة، ينتقل بعدها إلى وحدة أكبر برتبة أعلى فيجدد نشاطه ويضخ فيها دماً جديداً وحيويةً جديدة.. ويحل محله قائد جديد يفعل الشىء نفسه، فيبقى الجيش شاباً (مع إعمال شرط الكفاءة فى الاختيار طبعاً).. كان رأيى ولا يزال أن كِبَر سن المسؤول ليس هو المشكلة الأكبر بقدر ما هو طول مدة بقائه فى منصبه، فذلك يؤدى إلى فساده حتماً.. فإن لم يفسد مالياً فسيفسد على الأقل نفسياً وإدارياً.. فيشيخ وإن كان شاباً.. إذ سيركن ويرتاح إلى نفس المعاونين الذين بدأ بهم.. وتشيخ أفكاره وأفكارهم وتشيخ بالتبعية المؤسسة (أو الدولة).. فى مصر مسؤولون جاثمون على مؤسساتهم منذ ما يقترب من عشر سنوات.. لا للتمديد.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد بركات
شكرا لكل من اضاء شمعة فى ظلام الوطن الدامس