بعد أن قمت بصلاة تحية المسجد يوم الجمعة همس فى أذنى جارى الذى لا أعرفه: «لو ساد الحب قلوبنا حتفرق كتير».. رأيت فى وجهه إشراقة جميلة وهو يستطرد: عارف يا أستاذ عام 2008 قبل انعقاد قمة الدول الصناعية الثمانى الكبار اجتمعت الوفود فى حديث غير رسمى توطئة للاجتماعات الرسمية، وجرى الحديث عن تسجيل كل وفد لقناعته فى سبع قيم مهمة تحكم الحياة، وبدأ الوفد اليابانى حديثه بتسجيل القيمة الأولى، وظن الجميع أنها سوف تتعلق بالإنتاج والعمل، غير أن المفاجأة أن القيمة الأولى فى أولويات الوفد اليابانى كانت «الحب والجمال»، إذا ساد الحب بين الناس، وحب المواطن قيمة العمل، فسوف يكون الإنتاج جميلًا.. قلت لجارى يبدو أنك عسكرى، فضحك وتمتم: «عاوز تقول يسقط يسقط حكم العسكر»، سارعت بالنفى: بالعكس، بل لأننى أعجبت بطرحك للفكرة، لاحظت أن أفكارك مرتبة، وهكذا العسكريون غالبًا.. أشار الرجل إلى المصحف المفتوح أمامى وقال: لو اهتمت الأمة بمضمون هذا الكتاب لصرنا أمة عظيمة، وغيبه عن الاسترسال ارتفاع صوت المؤذن بالأذان.
الحب والجمال، قيمتان عظيمتان كبيرتان، فما أجلّ أن يكون منظورك للحياة من خلال الحب لا الكره.. لقد أدمن بعضنا نثر ثقافة الكراهية والبغضاء، وهى ثقافة تخلف فى المجتمع انقسامًا وتخلفًا، بينما بضاعة الإسلام تكمن فى إشاعة الحب بين الناس جميعًا، أيًا كانت عقائدهم، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).
ويقول ابن عربى: «انقسم أهل الله فى حب الجمال إلى قسمين: فمنا من نظر إلى جمال الكمال، وهو جمال الحكمة، فأحب الجمال فى كل شىء لأن كل شىء محكم وهو صنعته حكيم، فمن أحب العالم بهذا النظر فقد أحبه بحب الله، وما أحب إلا جمال الله، فجمال العالم جمال الله وصورة جماله دقيقة، أعنى جمال الأشياء، وهو الجمال المطلق السارى. ومنا من لا ينظر إلى الجمال العرضى، وذلك أن الصورتين فى العالم، وهما مثلان شخصان ممن يحبهما الطبع، وهما جاريتان أو غلامان، فقد اشتركا فى حقيقة الإنسانية فهما مثلان، وكمال الصورة التى هى أصول من كمال الأعضاء والجوارح وسلامة المجموع والآحاد من العاهات والآفات ويتصف أحدهما بالجمال فيحبه كل من رآه، فهذا هو الجمال العرضى الذى تعرفه العامة لا جمال الحكمة، فمنا من لم يبلغ مرتبته من نظر إلى جمال الكمال، وهو جمال الحكمة، وما عنده علم الجمال إلا هذا الجمال المقيد الموقوف على الغرض، فتخيل هذا الرأى الذى لم يصل إلى فهمه أكثر من هذا الجمال المقيد به، فأحبه لجماله ولا حرج عليه فى ذلك، فإنه أتى بأمر مشروع له على قدر وسعه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وكذا نفوس العامة يتعلق حبها بجارية أو غلام، أى شىء كان، فهم أهل الجمال العرضى الذى يتعلق به الحب العرضى، وهو ظل زائل وغرض مائل وجدار مائل. ما هو الجمال المطلق السارى فى العالم، وفى هذا الجمال العرضى يفضل آحاد العالم بعضه بعضًا بين جميل وأجمل، وراعى الحق ذلك على ما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم فى قول الصحابى له: «إنى أحب أن يكون نعلى حسنًا وثوبى حسنًا، فقال له إن الله جميل يحب الجمال».
الحب يصنع الجمال، والحب يصنع المعجزات، اسمعوا قول سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وهو يعلمنا الحب ومعانيه السامية السامقة فى الحديث الذى رواه مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم، فالإيمان غير مرتهن بالشكل والهيئة، وإنما مرتبط بالمضمون وبالسلوك، والإيمان حافز للحب، فلو توفرت هيئة الإيمان والصلاح، ولم يتوفر معها الحب فذلك تدين مغشوش، وإيمان منقوص، فالمعنى الذى قصده الرسول الكريم «ولا تؤمنوا حتى تحابوا» لا يكتمل إيمانكم، ولا يصلح حالكم فى الإيمان إلا بالمحبة.
إفشاء السلام سبب أكيد لشيوع الحب، وكما أشار النبى صلوات ربى وسلامه عليه، على من عرفت ومن لم تعرف. غابت عنا هذه المفاهيم فسادت الكراهية، وذاع صيت دعاة الكراهية، ولا أظن أن الجيل القرآنى الفريد الذى علمه هذا المعلم المبدع لم يعرف الاختلاف، بلى عرفوه لكنهم ارتبطوا بروابط الحب والإيمان والجمال، فمضت بهم السفينة على النحو الذى عرفنا وقرأنا، ما بالنا ضاقت أخلاقنا، وسادت فينا أدواء التعصب والانقسام؟
لا شك أننا فى حاجة لإعادة قراءة منظومة القيم التى علمها المعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم للجيل الذى وعى وتعلم ثم ساد الدنيا، يمكننا أن نكتشف الفروق لنتجاوز مناطق الخلل، فها هو المصحف الشريف متاح بأجود الطبعات وأفخم الأوراق، ربما يتبارى بعضنا فى إنجاز ختم تلاوة القرآن فى عدد محدود من الأيام أو الأسابيع، لكنها قراءة بلا وعى أو تدبر إلا من رحم ربى، أما لو تأملنا صنيعة الجيل الذى تربى فى مدرسة محمد، فنجدهم يقرأون عشر آيات مما يتنزل ثم يعرفون تفسيرها وتأويلها ويجتهدون فى تطبيقها سلوكًا واقعًا على حياتهم وتصرفاتهم قبل أن ينتقلوا إلى غيرها، وهو فارق لو تدبرنا عظيم.
معنى آخر جميل لفت إليه جليسى فى المسجد برشاقة بديعة «لن تتحسن أحوالنا إلا إذا توقفنا عن نفاق النفس»، كأنى لم أسمعها من قبل «نفاق النفس»، فقد تعودنا المعنى العام للنفاق، وهو أن يظهر الإنسان غير ما يبطن للغير، أما نفاق النفس فهو سلوك ذميم ينافق المرء نفسه التى بين جنبيه، مثله يحتاج إلى نفس لوّامة تحثه على التوقف عن ممارسة النفاق الشخصى، وارتكاب الآثام والذنوب تباعًا.
ذكر البخارى- رحمه الله- فى صحيحه عن عمار بن ياسر، رضى الله عنه، أنه قال: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار».
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد
مش لايقة عليك ... كلمنا عن الإرهاب والخيانة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
كاذبون
التعليق فوق